حينما كان يتنزل القرآن، خاطب رب العزة نبيَّهُ الأمين قائلا : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم}، كما خاطب جلّ ذكره المؤمنين عامة قائلا : {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، والخطاب في الآية الأولى وإن كان موجها بصورة خاصة -كما يفيد ظاهر اللغة- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه موجه أيضا إلى المؤمنين عامة، كما تشهد على ذلك العديد من الآيات القرآنية الأخرى. كما أن لفظ الملة الوارد في الآية الأولى، لا يقتصر على الاعتقاد أو التوحيد أو الشعائر الدينية فحسب، ولكنه يعم جميع مظاهر حياة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إذن فالولاء لله هو الخضوع التام له، والإسلام له دون خوف من البشر أو الأعداء وإن كثروا وتحرّبوا {الذين قال لهم الناس إن النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وفي المقابل فإن الولاء لغير الله هو ابتعاد عن الله وجحود به، وتنكب عن الصراط المستقيم، وسَيْر أعمى نحو الهاوية.
وطبقا لهذا المبدأ، فإن التاريخ الإسلامي شاهد على الولاءين :
- ولاء لله دفع قادة هذه الأمة وعظماءها على امتداد التاريخ إلى الإخلاص لدينهم وأرضهم وأبناء أمتهم، حتى في ساعات الضيق والحرج، وحتى في الحالات التي يُظَن أنها خاصة ولا تعم كافة الناس.
جاء في كتاب المحن : إن ملك الروم لما بلغه أن عمر بن عبد العزيز قد سقي سمّاً، أرسل إليه رأس الأساقفة، وكتب إليه يعلمه حالة عنده وما يوجبه من الحق لمثله، ويقول : بلغني أنك سقيت، وقد بعثت إليك رأس الأساقفة، وأطبّهم بعلاجك مما بك فقدم عليه، فقال له عمر : انظر إلى مجَسَّةِ عروقي. فقال : سقيت يا أمير المؤمنين، قال فماذا عندك؟ قلا : أسقيك حتى أخرج ذلك من عروقك، فقال عمر : لو كان روح الحياة في يديك ما أمكنتك من ذلك، ارجع إلى صاحبك فلا حاجة لي في علاجك.
وعلى مستوى مصلحة الدولة، كلنا نعلم قصة الخليفة العباسي الذي كتب إليه ملك الروح آمراً إياه بدفع ضريبة إليه، فأجابه الخليفة بكتاب جاء فيه : من عبد الله أمير المؤمنين إلى كلب الروم. أما بعد فإن الجواب ما ستراه لا ما ستقرؤه. وبعث إليه بجيش عظيم زلزل أطراف دولته.
- وولاء لغير الله غُلّبت فيه المصحلة الشخصية على مصالح الأمة، كما كان شأن عدد من ملوك الطوائف في الأندلس، الذين كان بعضهم يتآمر على بعض، ويحارب بعضهم بعضا، ويمدون أيديهم من وراء ستار إلى أعدائهم الصليبيين. فكانت عاقبتهم أن أتوا عليهم جيمعا، ولم يبق منهم ملك طائفة ولا زعيم.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن واقعنا الحالي، الذي كثر فيه الولاء لغير المسلمين بدعوى ضعف المسلمين وقلة عدتهم، ولا أقول عددهم، ونسي هؤلاء أن العُدّة البشرية يمكنأن يحسب لها ألف حساب وحساب، إذا ما رُبيت هذه العُدّة على الولاء لله، وعدم الخضوع للأعداء.
حزب الله -على قلة عددهم وعدتهم- نموذج فريد استطاع أن يفشل حسابات العدو، وأن يخرجه من جنوب لبنان صاغراً ذليلا، رغم جبروته وطغيانه، لا لشيء سوى أن ولاء هذا الحزب لله وحده، وأن أعضاءه المخلصين باعوا أنفسهم لله، ابتغاء لما عند الله. لكن حينما يرجع المسلم بصره الكَرّة بعد الكَرّة، والمرة بعد المرّة، يبحث عمّن يقول كلمة الحق فقط، دون رياء أو نفاق أو مجاملة، ينقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، حتى ولو جال ببصره في العالم كله.
في فلسطين شعب بأكمله يدمّر ويُذَبّح بشكل لم يشهد له التاريخ مثيلا. ولم نعد نسمع حتى تلك الكلمات المدينة التي كنا نسمعها في الماضي.
في العراق شعب مهدد بالتدمير الكلي، وجعل أرضه خراباً يبابا وأبنائه مجموعة من المعاقين والجهلة والمتخلفين.
في أرض الجزيرة، السعودية مهددة با لتقسيم، وجعل ثرواتها لقمة سائغة في فم المتربصين والحاقدين والمستكبيرن في كل مكان، وجعل مقدسات المسلمين بها تحت رحمة اليهود ومن والاهم، والبقية تأتي.
اللهم رحمتك بهذه الأمة، الله رحمتك بهذه الأمة.