قال تعالى : {خذ العفو وامر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سيمع عليم}(الأعراف : 199- 200).
قال القرطبي رحمه الله “هذه الآية من ثلال كلمات تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، فقوله : {خذ العفو} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمومنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله {وامر بالعرف} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، وفي قوله : {وأعرض عن الجاهلين} الحض على التعلق با لعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة”(آلجامع لأحكام القرآن 344/7).
إنها آية عظيمة حقا، جمعت مكارم الأخلاق في أوجز عبارة روىابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رضي الله عنه قال : لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم {خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ما هذا يا جبريل؟< قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك< وتلك هي فواضل الأعمال، ومحاسن الخلال، روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : >لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت يده وقلت : أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال : يا عقبة، صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك>.
إنها آداب الإسلام التي ضيعناها، آداب ما أعظمها، وأخلاق ما أجلها وأكرمها، العفو عمن ظلم (وتقدم في العدد الماضي) والإعراض عمن جهل، فإن الإعراض عن الجاهلين أول صفات عباد الله الصالحين {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}(الفرقان : 63) يجهلعليهم فيحلمون، ويتعرض لهم فيصبرون، ويشتمون فلا يقولون إلا خيرا {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}(القصص : 55) لا نريد طريقهم، ولا نبغي سبيلهم، لأن الله تعالى قال : {وأعرض عن الجاهلين}.
ولقد سجل التاريخ لسلفنا الصالح رحمهم الله مواقف إيمانية رائعة في التخلق بهذه الأخلاق والتأدب بهذه الآداب، منها ما يلي :
1- موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : >قدم عيينة ابن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال : فأستأذن لك عليه، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال : هِي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجَزْل (أي الكثير) ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر : يا أمير المومنين ، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {خذ العفو وامر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله.
2- موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما :
قال عصام بن المصطلق، دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام، فأعجبني سَمْتُه وحسن رُوائه، فأثار مني الحسد ما كان يُجِنُّه صدري لأبيه من البغض، فقلت : أنت ابن أبي طالب؟ قال : نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه! فنظر إلي نظرة عاطف رءوف، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {خذ العفو وامر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} ثم قال لي >خفض عليك؟ استغفر الله لي ولك، إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك< فتوسم فيّ الندم على ما فرط مني، فقال : {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} أمن أهل الشام أنت؟ قلت نعم، قال : شنشنة أعرفها من أخزم< حياك الله وبياك، وعافاك وآداك (قواك وأعانك) انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله< قال عصام، فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي، ثم تسللت منه لواذا، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومــن أبيه<(الجامع لأحكام القرآن 350/7).
3- موقف سالم بن عبد الله رضي الله عنهما :
عن عبد الله بن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس فقال : إن هذا منهي عنه، فقالوا : نحن أعلم بهذا منك! إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به فسكت سالم وقال : >وأعرض عن الجاهلين<(مختصر ابن كثير 77/2).
فأين نحن من هذه الأخلاق؟