فضاءات دعوية : نظرة سننية ربانية إلى المستقبل 2- رؤية الإسلام الروحية المتكاملة للعالم


لقد كتب الله على اليهود الذلة والمسكنة بما قدمت أيديهم،  ولكنه جعل لذلك استثناء… أو استثناءات.

{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء  وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} (الإسراء: 4-8).

{ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} (آل عمران: 112).

وهم الآن في قمة استثناءاتهم  التي وعدهم الله بها، مسيطرون على كل الأرض إلا ما رحم ربك، يعينون رؤساء الجمهوريات، ويملون عليهم سياستهم، ويعزلون من يغضبون عليه ويسقطونه من سلطانه، ويقتلون من يقف في طريقهم كما قتلوا كنيدي وغيره من الناس.. ولكن هذا كله استثناء من القاعدة !

{وإذا تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} (الأعراف: 167).

تلك هي القاعدة الدائمة، وما دون ذلك استثناء، والاستثناء بطبيعته لا يدوم، لأنه مخالف للقاعدة !

والقاعدة من تقدير الله سبحانه وتعالى، والاستثناء يتم بقدر منه كذلك، ولكن طبيعة الأمور أن الاستثناء ينتهى ويعود الأمر إلى ما تقرر في القاعدة، حسب وعد الله ووعيده.

وقد لا نعلم نحن الحكمة الربانية في تلك الاستثناءات المذكورة في آيات الكتاب، ولكن وقوعها محقق سواء فهمنا حكمتها أم غابت الحكمة عن أفهامنا.. والمهم أن ندرك أنها استثناء من القاعدة، وأنها موقوتة بأمد محدود.

واليهود أنفسهم يعلمون ذلك ! ويعلمونه من كتبهم ذاتها لا من المصادر الأجنبية عنهم !

وحين تنهار الجاهلية المعاصرة بمقتضى السنة الربانية، بحكم ما تشتمل عليه من الفساد، فإن البشرية تكون في حاجة إلى البديل الذي يملأ الفراغ.

والإسلام هو البديل، هو الذي يعيد للأرض رشدها ويصلح أحوالها ويشفيها من أمراضها:

{يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة: 15-16).

الإسلام هو المنهج الكامل القويم الذي لا عوج فيه، ومناهج الجاهلية دائما ذات نقص واعوجاج.

واليوم يفر مئات الألوف كل عام من الظلمات التي يعيشون فيها إلى نور الإسلام، لا اتباعا لنموذج قائم، فالمسلمون في واقعهم المعاصر لا يمثلون نموذجا يحتذى، بل هو نموذج حري أن يصد الناس عن الإسلام!

إن الغرب الضائع يملك علما وحضارة مادية فائقة، ولكنه يفتقد الروح.. الروح المهتدية إلى الله.. المهتدية بهدى الله. والإسلام هو الذي يملك تلك الروح، وهو في الوقت ذاته لا يجعلها بديلا من العلم والحضارة المادية، إنما هي التوأم المكمل:

{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ســاجــدين}(ص: 71-72).

قبضة الطين ونفخة الروح معا هما “الإنسان”. الإنسان المتكامل  المترابط المتوازن. الإنسان الراشد، الذي يقوم بعمارة الأرض على هدى وبصيرة، ويتطلع في الوقت ذاته إلى اليوم الآخر،  الذي تكتمل فيه الحياة:

{هو الذي  جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} (الملك: 15).

{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص: 77).

{وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}  (التوبة: 72).

الإسلام هو المنقذ الذي يملك ما تحتاج إليه البشرية وتتطلع إليه.

يقول الأمير تشارلس ولي عهد بريطانيا في محاضرة قيمة ألقاها في قاعة المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية في ديسمبر من عام 1992م، تحمل دلالة واضحة بالنسبة للمعنى الذي أشرنا إليه:

“إن المادية المعاصرة تفتقر إلى التوازن. وأضرار عواقبها بعيدة الأمد في تزايد.. إن القرون الثلاثة الأخيرة شهدت- في العالم الغربي على أقل تقدير – انقساما خطيرا في طريقة رؤيتنا للعالم  المحيط بنا. فقد حاول العلم بسط احتكاره، بل سطوته المستبدة، على طريقة فهمنا للعالم. وانفصل الدين والعلم عن بعضهما البعض، بحيث صرنا الآن كما قال الشاعر “وردزورث” لا نرى إلا القليل في أمنا الطبيعة التي نملكها”.

لقد سعى العلم إلى انتزاع الطبيعة من الخالق، فجزأ الكون إلى فرق، وأقصى “المقدس” إلى زاوية نائية ثانوية من ملكة الفهم عندنا، وأبعده عن وجودنا العملي. والآن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمرة. ويبدو أننا نحن – أبناء العالم الغربي- قد فقدنا الإحساس بالمعنى الكلي لبيئتنا، وبمسؤوليتنا إزاء الكون كله الذي خلقه الله، وقادنا ذلك إلى فشل ذريع في تقدير أو إدراك التراث وحكمة السلف، ذلك التراث المتراكم على مدار القرون، والحق أن ثمة تحاملا شديدا على التراث، كما لو كان جذاما اجتماعيا منفرا.

وثمة الآن في نظري حاجة إلى مقابلة كلية شاملة. لقد أدى العلم لنا خدمة جليلة في تباين لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا نتخيل. ولكن العلم في شكله المادي الحديث، الأحادي، عاجز عن تفسير كل شيء. إن الخالق ليس ذلك الرياضي الذي  تخيله نيوتن، وليس صانع الساعة الأول (1). إن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيم والموازين الأخلاقية والمقدسة قد  بلغ حدا مريعا مفزعا. وهذا ما نراه في التلاعب بالمورثات (الجينات) أو في عواقب الغطرسة العلمية التي تتجلى في أبشع صورها في مرض جنون الأبقار.

لقد كنت أستشعر دائما أن التراث في حياتنا ليس من صنع الإنسان، إنما هو إلهام فطري وهبه الخالق لنا لإدراك إيقاع الطبيعة، والتناغم الجوهري ا لذي ينشأ عن وحدة أضداد متفرقة، ماثلة في كل مظهر من مظاهر الطبيعة. إن التراث يعكس النظام السرمدي للكون، ويشدنا إلى الوعي بالأسرار العظيمة للكون الفسيح، بحيث نستطيع – كما قال الشارع “وليم بليك” – أن نرى كامل الكون في ذرة، ونرى الأبدية في لحظة.

إن الثقافة الإسلامية في شكلها التراثي جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلال الأجيال الأخيرة في الغرب موائمة للتطبيق. وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم الإسلامي في هذا المضمار.

إننا – نحن أبناء الغرب – نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا كما نتعلم بعقولنا. وإن اقتراب الألف الثالثة قد يكون الحافز المثالي الذي يدفعنا لاستكشاف هذه الصلات وتحفيزها. وآمل ألا نفوت الفرصة السانحة لإعادة اكتشاف الجانب الروحي في رؤيتنا لوجودنا بأجمعه” (2).

ذ محمد قطب

——-

1 – قال نيوتن إن الله خلق الكون على هيئة ساعة كونية منضبطة الحركة.   ولكن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الكونية الضخمة، لأنه هو ذاته لا يستطيع تغيير مسارها حتى لو أراد ذلك !

عن كتاب “منشأ الفكر الحديث” تأليف برنتون ص: 151 من الترجمة.

2 – عن جريدة الشرق الأوسط العدد 6592.بتاريخ 15/12/1996.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>