حل الربيع في هذا العام من السنوات العشرين العجاف، وهو العام الأول في الألفية الثالثة والقوم في عجلة من أمرهم؛ إنهم يعدون جلابيبهم البيضاء الناصعة استعداداً لصلاة الاستسقاء للمرة العاشرة خلال خمسة أشهر متتاليات. فلا تمر ببيت إلا ونسوته لا شغل لهن إلا دق الحناء والورد اليابس والخزامى، يتباهين بما سيكون عليه أزواجهن من مظهر جذاب وهم محاطون بمجال مغناطيسي من الطيب وأصناف العطور..
وكان بضواحي العاصمة، هناك فوق الربوة المقابلة لمبنى البرلمان بيت لايبدو منه ليلا إلا ضوء خافت، ولا يسمع له إلا نباح وثغاء. تظل تحوم حوله هذه العَنزة التي فقدت أحد قرنيها في معركة ضارية للدفاع عن صغارها في الشتاء الأخير، وبقي الآخر منتصبا يساعد على فتح باب البيت ويرهن الأعداء ويداعب الأحباب.. ولها فيه مآرب أخرى..
كانت عنزة السيد سلمان قد ضاقت ذرعا بأكل قشور الصبار والتبن، وبعض قطع الخبز الجاف، ودأبت على الوقوف أوقاتا متعددة وهي ترنو إ لى خضرة هناك في الأفق شرقا، فيسل لعابها تارة، وتدمع عيناها أخرى، وتطأطئ أذنيها كلما سمعت وقع أقدام السيد سلمان وهو ينتعل حذاءه العريض وسرواله الذي يصلح لكل الفصول والمناسبات، برأس كالمنطاد يتصبب عرقا وشارب غلب عليه البياض، يظل سلمان قائما دون أن تهدأ له حركة، يتفقد أحوال البيت كلما سمع نباح كلبه ربيع الذي كان وجده على ضفاف نهر أم الربيع، وهو في زيارة للولي “بوشعيب الرداد” فسماه هكذا <تيمنا بالوادي العريق والولي الذي يحرس ضفافي<؛ فهو لا يمل بمناسبة أو من دونها الحديث عن نشاط كلبه وفطنته، فلا تسمع منه إلا “ربيع أنقذ العنزة من جزاري العاصمة الشهر الماضي”، و”ربيع يرد التحية بالفرنسية والإسبانية.” و”ربيع يجيد المواء وبذلك يصطاد قطط الجيران بمنتهى البساطة”، و”ربيع…” و”ربيع…”.
üüüü
أتى يوم الخميس وهو موعد سلمان الأسبوعي للقاء أصدقائه بـ”سوق الكلب” وقضاء مآرب أخرى في ما كانت السيدة الزاهية تجمع الحطب لبعث الدفء في كبد هذا الكوخ المهترئ الكئيب..
أشرقت شمس هذا الخميس -على غير عادتها- باهتة المحيا، بدت معها القبة المكعبة كالشبح هناك في الأفق البعيد، تطل عليها رؤوس أشجار نخيل شمطاء يدغدغ أقدامها عشب اشتعلت رؤوسها شيبا. هكذا كان المشهد حقا، أو هكذا خيل لذات القرن الوحيد، وهي تقف هناك، ما بين الصبار وكيس خبزجاف أسمر تحيط به أسراب من الذباب والصراصير.. وترنو إلى ما هناك شرق الربوة يسار الوادي الرقراق، وفجأة انتصب قرنها وهي تلمح سربا من الحمائم البيضاء وقد تفرقت في فضاء ملأه هدير عربات سكان القبة المزركشة صخبا، فغمرته فوضى عارمة من الأضواء وأصوات المنبهات وصرير أبواب السيارات السعيدة وهي تفتح وتغلق إيذانا بوصول رئيس القبة، وإذا به رجل عريض الهيكل. ثقيل الخطى، ثاقب النظرات، يسير متكئا على عكازه الذي تكسوه سبائك تكشف عن ثناياها لكل العيون، وخطر -ساعتها- ببال عنيزة ما كانت تتهيبه لليوم، فانطلقت تركض تاركة وراءها أسراب الذباب والصراصير..
üüüü
راقها منظر العشب الذي تداعبه خيوط شمس هذا الصباح، التي بدأت تتلألأ رويداً رويداً، فأخذت تداعبه بشفتين مرتعشتين اكتسبتا مع مرور اللحظات قوة وحيوية وهما تنعمان بعشب يسقي بالماكينات والحواسيب، ويسهر عليه رجال لم يخطر ببالها قط رؤية أمثالهم؛ بلباس أنيق وأحذية يسمع نعيبها وهي تدوس حشائش بهو البرلمان. وانتفخ بطن عنيزة وخفت حركاتها وبدت عليهانضارة ذكرتها بأيامها الخوالي، وأثارها منظر هذه العجلات الأسطوانية العريضة، وكيف لا وهي لم تر من قبل سوى عجلة نقالة السيد سلمان المهترئة، فتقدمت نحوها وبدأت تتمسح بها وتداعبها.. وما هي إلا لحظات حتى وجدت عنزة سلمان نفسها محاصرة بأحذية كالغربان، وتذكرت حذاء السيد سلمان، فبدا لها على خشونته وقبح منظره، وديعا ووسيما..
üüüü
ها هي ذي داخل القبة المكعبة تحيط بها عشرات الرؤوس ومئات من العيون البراقة، وقام رجل سمين، وهو يقوم رباطة عنقه بيدين تغطيهما السلاسل وخواتم الماس، خطيبا : بصوت مجلجل والقوم يؤيدون بحركات رؤوسهم ما تنبس به شفتاه اللتان كساهما غبار السجائر والْـ.. فذكر القوانين والفصول والبنود المعدّلة والمعدِّلة لها، وأفاض في شرح المساطر الضابطة نازلة لاسابق لها كهاته، واستنفر مناصريه فوقفوا عن بكرة أبيهم صامتين لما أعلنها “لقد تبولت هذه العنزة اللعينة على العجلة اليسرى لسيارة السيد الرئيس”.
عم المكان ضجيج وصخب، فهؤلاء يستنكرون فعلا مشينا كهذا، وبعض “المعارضين” يتحدثون عن حرية الماعز باعتباره من أكثر حيوانات البلاد نشاطا وإبداعا، ورجال من “الوسط” يلحون على ضرورة توفير المراحيض بالشكل الكافي، وآخرون لالون ولا طعم لهم ولا رائحة وقفوا يعددون فوائد بول الماعز، وما ينتج عنه من تفاعلات كيميائية مع المطاط لابد أن تعود بالنفع على العشب والإنسان على حد سواء.. وانبرى أحدهم، هناك داخل القبة شرقها، يفسر علاقة ما حدث باضطهاد صغار الماعز هناك في أعالي الجبال، وصرخ آخر معلقا : “إنها تستنكر نمط الاقتراع الذي يقصي إناث الماعز من الانخراط بجدية في الحياة السياسية للبلاد”.
وبينما كانت آراء القوم تكاد تستقر على عقوبة سجن خفيف دون غرامة مع التنفيذ الفوري، قام الرئيس من على كرسيه وعيناه جاحظتان يصيح : “انصرفوا Sصil vous plait… لقد فعلتها مرة أخرى… إنها تدنس المكان..”.
محمد لفقيهي