من الواضح أن الواقع قد اختلف كثيرا عن المثال.
وقد استعرضنا من قبل بعض أسباب هذا الاختلاف بين الواقع الذي حدث بالفعل، والمثال الذي كان يجب أن تسير عليه الأمور، وبعض النتائج التي ترتبت على ذلك الاختلاف.
وهنا بعد أن فصلنا الحديث عن المنهج النبوي في إنشاء القاعدة الصلبة، ثم توسيع القاعدة بمعاونة القاعدة الصلبة، تحت إشرافه [، نعود إلى شيء من التفصيل فيما حدث من افتراق بين الواقع والمثال.
التعجل هو الطابع العام للتحرك الذي قامت به الصحوة الإسلامية منذ قيامها..
هناك ابتداء تعجل في إنشاء القاعدة ذاتها.
لو كنا أخذنا منذ البدء فكرة صحيحة عن نوع الخلل الذي حدث في بنية الأمة، والذي نشأ عنه ما نشأ من غربة الإسلام بين أهله، وتداعى الأعداء على الأمة من كل حدب وصوب… وأخذنا فكرة صحيحة عن نوع الجهد المطلوب لإصلاح هذا الخلل الهائل في بنية الأمة.. وأخذنا فكرة صحيحة عن نوع الجهد الجبار الذي بذله الأعداء في التخطيط والإعداد لمحاولة القضاء على الإسلام، لكنا جديرين أن نتمهل كثيرا في الحركة، ولا نتعجل في المسير.
هل كانت المواصفات المطلوبة في القاعدة الصلبة واضحة في أذهاننا حين بدأنا الدعوة؟ هل كان واضحا في أذهاننا أن توجيه الدعوة “للجماهير” قبل إعداد القاعدة قد يعرضنا لموقف صعب، حين تتدفق الجماهير بالشحن العاطفي، ثم لا تجد موجهين ومربين، لأننا لم نعد بعد الموجهين والمربين الذين يمكن أن يستوعبوا تلك الجماهير؟ وهل كان واضحا في أذهاننا أن تجميع الجماهير بالشحن العاطفي دون تربية حقيقية تترتب عليه نتائج خطيرة في سير الدعوة حين تنزعج السلطات المحلية والعالمية، فتغضب فتضرب، والناس على غير استعداد بعد للضرب، بل القاعدة ذاتها لم تُعَدَّ إعدادا كافيا لتلقي الضربات؟
أعتقد من رؤية واقع المسيرة، أن هذه الأمور لم تكن واضحة بالقدر المطلوب، فالقاعدة ذاتها شكلت على عجل من الخامات الموجودة في ذلك الحين. وحقا إنه لا يمكن في أي وقت أن تبدأ حركة إلا بالخامات الموجودة في حينها، تلك بديهية. ولكن الخامات يجب أن تنتقى بعناية فائقة، ويجب أن تبذل عناية فائقة في إعدادها، وتنقيتها من شوائبها، قبل أن تسند إليها مهمة العمل في الدعوة، خاصة إذا كانت الدعوة تقوم في مثل الغربة التي كان عليها الإسلام، وتواجه مثل العداوة التي واجهتها من الأعداء.
ونحن الآن لا نوجه لوما لأحد، وكل عمل في سبيل الله مأجور بإذن الله، ولكنا نبين فقط مدى الفرق بين ما كان، وما يجب أن يكون.
ولا شك أن الداعية الأول – عليه من الله رحمة، وجزاه الله خيرا بما قدم – قد بذل جهدا واضحا في تنقية تلك الخامات من بعض ما كان عالقا بالمجتمع كله من أوشاب، فأخرج من نفوسهم الانحصار في الفردية الضيقة، ورباهم على روح جماعية متحابة متراصة متعاونة متكافلة، تربط بين أفرادها أخوة الإسلام، وأخرجهم من الاشتغال بالعبادة الفردية المنحصرة في شعائر التعبد، إلى العبادة بالمعنى الأوسع الذي يدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة مجتمع مسلم يحتكم إلى شريعة الله، كما رباهم على كثير من الأخلاقيات الفاضلة، وعلى الفدائية لدين الله.
ولكن واقع المسيرة يدلنا على نقص كبير في الوعي السياسي والوعي الحركي.. وأخطر من ذلك نقص في إدراك حقيقة القضية، وحقيقة الهدف الذي نسعى إليه.
لقد سعينا إلى تكوين قاعدة جماهيرية واسعة لنستعين بها على الوصول إلى الحكم على أساس أنه حين نصل إلى الحكم نطبق شريعة الله…
هدف مشروع في ذاته، ودع عنك موقف الجاهلية التي تجعل من حق كل إنسان أن يسعى للوصول إلى الحكم… إلا الإسلاميين ! فهم وحدهم يصبحون مجرمين إذ اسعوا للوصول إلى الحكم ! دع عنك هذا فهو موقف معروف من الجاهلية تجاه دعوة الحق، منذ كانت جاهلية في الأرض، ودعاة يدعون بدعوة الحق. “شنشنة نعرفها من أخزم” كما يقول المثل العربي المشهور ! سواء جاء “أخزم” من الشرق أو الغرب أو من داخل البلاد !
ولكن القضية ليست في مشروعية الهدف… إنما هي في سؤال أساسي: هل مجرد تطبيق الشريعة يكفي لإصلاح حال الأمة التي وصلت لأن تكون غثاء كغثاء السيل، أم يحتاج الأمر إلى متطلبات أخرى قبل ذلك، وبعد ذلك وفي أثناء ذلك؟ !
لو أن الداعية الأول – رحمه الله- أعلن للصفوة التي اختارها لتكون هيئة تأسيسية لجماعته ما أعلنه “للجماهير” عام 1948م (أي بعد عشرين سنة من بدء الدعوة) لتغيرت أمور كثيرة في خط السير !
في عام 1367هـ (1948م)، وتحت عنوان: “معركة المصحف”، قال الإمام الشهيد: “الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك، ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة، أي إلى الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم، وإذا قصر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكما مسلما، وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية.. وإذا رضيت الجماعة أو الأمة بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية، مهما ادعت ذلك بلسانها. وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون هو نفسه متمسكا بفرائض الإسلام، بعيدا عن محارم الله، غير مرتكب للكبائر، وهذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكما مسلما حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناء على موقفهم من دعوة الإسلام” (1).
ترى لو كان أعلن ذلك منذ البدء، هل كانت ستتدفق الجماهير التي تجمعت حوله عن طريق الشحن العاطفي حتى بلغت نصف مليون، معظمهم من الشباب، في شعب لم يكن يتجاوز تعداده يومئذ تسعة عشر مليونا من البشر؟ بل هل كانت “الصفوة” ذاتها تتجمع بمثل هذه السهولة التي تجمعت بها، منساقة بعواطفها نحو الهدف الكبير؟
لا أظن..
ثم هل كانت ستتكون من نفس الأشخاص الذين تكونت منهم بالفعل أم من غيرهم؟
لا أدري ! ولا أحد يستطيع أن يقطع في ذلك بيقين.
ولكن أيا كان الأشخاص الذين كانت القاعدة ستتكون منهم يومئذ، فقد كانوا سيكونون أصلب عودا، وأكثر دراية، وأطول نفسا، وأقل تعجلا مما كانوا بالفعل، فما كانوا سينساقون بعواطفهم، ولا كانوا سيعتقدون أن الهدف سهل المنال قريب التحصيل، فيجندوا أنفسهم وأعصابهم، كما فعل كثير منهم، لفترة محدودة من الزمن، يعتقدون أن كل شيء سيتم في خلالها بما أعدوه من وسائل الوصول.
كانوا سيعلمون أن المشوار طويل طويل، وأن الجهد المطلوب غاية في الضخامة، وأن الوسائل المطلوبة أكثر بكثير مما هو معد.. لأن المطلوب ليس مجرد ترميمات في بناء قائم، ولكنه إعادة تثبيت الأساس.
ذ محمد قطب
———–
1- انظر العدد 627 من جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية، السنة الثالثة، بتاريخ الأحد 7 رجب سنة 1367، 16 مايو سنة 1948.