دروس من سيرة المصطفى : الأمارات الكبرى للنبوة الخاتمة الأمـارات الـمعنوية (1)


ذكر الله تعالى بعض هذه الأمارات مجموعة في قوله تعالى في سورة الأعراف 157 : {الذِينَ يتَّبِعُون الرَّسُولَ النَّبِيءَ الأمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ(1) مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بالمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ، ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغْلاَلَ التِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.

وبعض هذه الأمارات ذُكر في السنة، من ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص عندما سئل عن صفات رسول الله في التوراة، فقال : >أجَلّْ، واللَّهِ إنَّه لموصُوفٌ في التوراة بصفته في القرآن {يا أيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً} وحِرْزاً للأمّيّين، أنتَ عبدي ورسولي، سمَّيْتك المتوكِّل، لا فظٌّ ولا غليظ ولا صخّابٌ في الأسواق، ولا يدفَعُ السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضَهُ الله حتى يقيم المِلَّة العوجاء، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، يفتح به أعْيُنَا عُمْيَا، وآذانا صُمّاً، وقلوباً غُلْفا<(2).

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم : >فضلتُ على الأنبياء بست : أُعطيتُ جوامع الكلم، ونُصرتُ بالرعب، وأحّلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلتُ إلى الخلق كافة، وختم بي النبيئون<(3).

من خلال النصوص نجد أن العلامات التي لم يشاركْه فيها أحَدٌ هي :

1- تحليل ما كان محرّما على اليهود من الطيبات :

لأن تحريم هذه الطيبات عليهم كان لحكمة خاصة بأحوالهم، كان تحريماً مؤقّتاً ينتهي بمجيء الشريعة الإسلامية، شريعة اليسر ورفع الحرج، ليكون ذلك دليلا على صدق نبوة محمد ورسالته.

وقد ذكر الله تعالىفي سورة الأنعام 146 الطيبات التي حرَّمها على اليهود خاصة، عقابا لهم على بغيهم وعدم انصياعهم لشريعة ربهم قال تعالى : {وَعلَى الذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ : حرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ مَا حَمَلتْ ظُهُورُهُمَا أوِ الحَوَايَا أوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِك جَزَيْنَاهُم ببَغْيِهِمْ وإنَّا لَصَادِقُون}(الأنعام : 146)(الحوايا : هي الأمعاء)

فالبغي الكبير الذي أحدثوه هو من مثل قولهم لموسى : {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}(البقرة : 60) وقولهم : {اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(المائدة : 26) ومثل : عبادة العجل الذي صنعه لهم السامري {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ، فَقَالُوا هَذَا إِلاَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِي}(طه : 86)، فهذه الجرائم الكبرى المأخوذة عليهم تمَسُّ العقيدة، وعلى رأسها الكفر أو عَدَمَ الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، فكان هذا البغي سببا لعقاب الله تعالى لهم بحرمانهم من بعض الطيبات، ليكونوا موسومين بالعقاب الربّاني المُبْطل لقولهم >نَحْنُ شَعْبُ اللَّهِ المُخْتار< أو >نَحْنُ أبْنَاءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ< إذْ لو كانواكذلك ما عَذّبهم الله تعالى : {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمْ}(المائدة : 20) وما حرَمهم من الطيبات التي أباحها لغيرهم.

ولشعورهم بالخزي والانهزام داخل أنفسهم -مع ما يزعمون أنهم المقرّبون عند الله دون جميع الأمم- كانوا ينكرون أن يكون الله تعالى حَرَّم ما حرّم عقوبةً لهم، فكانوا يزعمون أن تلك المحرمات كان حرَّمها يعقوب على نفسه نَذْراً لله، فاتّبعَهُ أبناؤه اقتداءاً به(4)، فرَدّ الله تعالى عليهم هذا الزعم وهذا الإدعاء بقوله تعالى في الأنعام : {وإنّا لصَادِقُون} في تبيين الحق في التحريم العقابي خلافاً للباطل الذي يدّعونه ويدارون به الإهانة الربانية المسلطة عليهم ببغيهم(5).

وردَّ عليهم كذلك في سورة آل عمران الرّدّ القاطع للزعم الكاذب بأن الله تعالى لم يحرم عليهم شيئا، قال تعالى : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي اسْرَائِيلَ إلاَّ ما حَرَّمَ إسْرَائِيلُ علَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزَّلَ التَوْرَاةُ، قُلْ فَاتُوا بالتَّوْراةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِك، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ صَدَقَ اللَّه…}(93، 94، 95).

ختمت آية الأنعام بـ{وإنّا لصادِقُون} وآيات آل عمران بـ{قُلْ صَدَق الله} للتدليل على أن ما قاله الله تعالى هو الصدق الذي لا صدق فوقه، {ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}(النساء : 121) ولإبراز الإعجاز الرباني المتمثِّل في إخبار الله تعالى بهذه المغيَّبَات التي لا يعلمها إلاّ عَلاَّمُ الغيوب(6)، فمن كان يعرف التشريعات التَوْراتِيَّة من العرب وغير العرب من الناس، إن اليهود وحدهم هم الذين كانوا يعلمون بما في توراتهم من التشريعات المعاقبة لهم حقا وصدقا، ويعلمون بما حرَّفوه وزوَّرُوه ليشتروا به ثمنا قليلا، أو ليُداروا به خِزْياً مُهينا(7).

إن إبراز هذه الحقائق في كتاب الله تعالى تدل على أن الكتاب من عند الله تعالى، وأن محمداً النبي الأمي هو الرسول الخاتم حقا وصدقا، وأن تحْلِيلَ ما حُرِّم على اليهود وغيرهم من الطيبات، مَعْلَمةٌ كبرى تميّز النبي الخاتم لمن أراد الاهتداء للحق المبين.

يكتبها :

ذ. المفضل فلواتي

———-

1- يجدون صفاته ونعوته التي لا يشبهه فيها غيره، فجُعلت الصفات المتفرِّدة بمنزلة الذات، لأن الذات لا تكتب وانما يكتب وصفها، التحرير التنوير 133/9.

2- سيرة بن كثير 327/1، قال ابن كثيروراه البخاري عن محمد بن سنان، عن فليح به.

3-رواه الشيخان، وجاء في الصحيحين أيضا والنسائي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم >أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة< التفسير المنير 128/9.

-4 التحرير والتنوير 144/8 : قال الطاهر بن عاشور >وليس قولهم بحق، لأن يعقوب إنما حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وكان ذلك لنذْر أو مصلحة بدنية، وذلك التحريم لا يسري إلى من عداه من ذريته<.  //  5- المرجع السابق.  //  6- المرجع السابق.

7- وقد قال تعالى في آل عمران {كُلُّ الطَّعامِ كَان حِلاًّ لِبَنِي إسرائيل إلا ما حرَّمَ اسرائيل على نفسه من قبل أن تُنزّل التوراة..} للتدليل على أن دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإن الحنيفية لم يكن ما حُرِّم من الطعام بنص التوراة محرّماً فيها، ولذلك كان بنو اسرائيل قبل التوراة على شريعة ابراهيم عليه السلام، فلم يكن محرما عليهم من الطعام إلا طعاما حرمه يعقوب على نفسه ولا يخفى ما في الآية من التجهيل لبني اسرائيل الذين لا يعرفون تاريخهم، ويحاولون لغباوتهم الطعن في الإسلام الذي جاء بالحنيفية ملة ابراهيم. التحرير 8/4.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>