تحليل سياسي : الانتخابات النيابية بالمغرب : قراءة في النتائج


لقد تميزت الانتخابات البرلمانية بالمغرب الجارية في شتنبر 2002م عن سابقاتها، من حيث الشكل على الأقل، مما يوحي بدلالات تجعل المهتمين بها يتأملون في سيرورة الأحداث والأمور السياسية والاجتماعية بالبلاد، سواء على مستوى الحكم وروافده، أو الأحزاب باختلاف انتماءاتها، أو الشعب بمختلف فئاته، أما على مستوى المضمون فلم يكن هناك مايسترعي الانتباه، إذ أن دار لقمان ما تزال على حالها. ولايكفي في تغيير الأمر بعض الإجراءات الشكلية هنا وهناك كتغيير شكل الصناديق والمعازل والألوان والرموز، وأشكال الدعاية والتصويت والتقطيع الانتخابي أو طريقة الانتخاب والمساطر القانونية.. إن هذه الشكليات وغيرها لم تستطع ان تنال الجوهر في شيء. إذ أن الأمر يستدعي أكثرمن ذلك مما هو تغيير وإصلاح للدستور ولعديد من الإجراءاتالسياسية وتوسيع نطاق الحريات العامة، وحقوق المواطنة، والحد من سلوكات المخزن، وتنقية الأجواء من أموال الحرام وسماسرة الذمم البشرية والمستثمرين فيها، والتوعية الثقافية والسياسية للجماهير، وتأسيس أحزاب حقيقية قائمة على أهداف التأطير والتطوع وتنوير وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وإزالة الأحزاب والعناصر الفاسدة والبائدة والمستبدة والمفتعلة، والحد من سياسة التفريخ والبلقنة على  حساب الأحزاب والعناصر الحقيقية  والصالحة والفعالة.

فيما يخص انتخابات البرلمان الجارية في شتنبر من عام 2002 هناك جملة من الملاحظ تأخذ انتباه كل مهتم بهذه الانتخابات. نذكر من أهمها:

الملحظ الأول : أن هذه الانتخابات من حيث الحملة والتعبئة والدعاية، شهدت خفوت الأساليب السابقة المتمثلة في شيوع الرشوة والإغراء والإغواء والبهرجة وتأثير المخزن، من خلال وسائله المختلفة.. كل هذا بالطبع ترغيبا لشرائح من الجماهير العازفة عن المشاركة.. وقد لاقت كل المحاولات فتورا بينا سواء على  مستوى التسجيلات بالمراكز والمقاطعات، أو سحب البطائق، أو حضور مكاتب الاقتراع يوم الانتخابات.

الملحظ الثاني : كثافة العدد من حيث الأحزاب المقتحمة للميدان، وقد بلغ ستة وعشرين حزبا تتشابه فيما بينها وكلها أحزاب علمانية باستثناء حزب  ” العدالة والتنمية” الذي يضم في صفوفه إسلاميين محسوبين على التيار المعتدل.

هذه الأحزاب برمتها، وإن اختلفت على  مستوى الشكل، فإنهاتتفق في الجوهر في عديد من المواصفات الأساسية منها :  الموقف من دستور المملكة الذي يحتاج إلى  الكثير من التعديل والتغيير، وإلى طرحه للإستفتاء على  الشعب بشكل واضح نزيه و”ديمقراطي”، حتى يصيرا ختياريا لاقسريا ولا ممنوحا؛ وكذا أساسيات أخرى  تتعلق بالحريات العامة وحقوق المواطنة وصلاحيات الحكومة ورئيسها والبرلمان وسلطة القضاء وتحريرها وفصل السلط…

الملحظ الثالث: تنفذ أجهزة الداخلية في العملية من بداية الدعاية والتقطيع وقبول الأحزاب المشاركة والمترشحين، إلى الاعلام والحملة الانتخابية إلى  جمع النتائج وتحويلها إلى الجهات الرسمية ثم إذاعتها رسميا.. فهنا يبقى لوزارة الداخلية والأجهزة الأخرى للدولة هوامش متعددة للفعل والتصرف علما أن كل الاحزاب الداخلة في اللعبة تتحرك في إطار واحد  والتباين بينها ثانوي، كما يسجل في إطار هذا الملحظ أن الهيئات المقاطعة لايسمح لها با لتعبيير عن مقاطعتها والدعوة والدعاية والتوعية من خلال إصدار منشورات وتوزيعها أو عقد لقاءات وتجمعات مع الشعب أو استدعائها إلى أجهزة الإعلام التي تهيمن عليها الدولة وبعض احزاب الحكومة، في وقت تسخر أجهزة الإعلام الرسمية للدعاية للمشاركة بشكل مستديم خلال فترة الحملة الانتخابية وقبلها بمدة طويلة وأثناء إجراء الانتخاب وبعده كما تستعمل الدولةكافة الأساليب وكثير منها غير قانوني للتأثير على  الناس من أجل المشاركة، بل التصويت على أحزاب بعينها في بعض الأحيان..

الملحظ الرابع: عدم السماح لاختيارات أخرى بالمشاركة السياسية، أو ضمن مؤسسات المجتمع المدني، وحرمانها من حقها المشروع  ووضعها القانوني الطبيعي كعناصر  ومكونات فعالة في المواطنة والتأطير الجماهيري والحركة السلمية والمدنية للمجتمع، وإقصائها بذرائع ووسائل مختلفة ضمن هذه التنظيمات من له رغبة في المشاركة في اللعبة التي  تدعو إليها أجهزة النظام، ومنها من يتحفظ أو يشترط أو يقاطع، لكن بشكل مسؤول وقانوني. نذكر من هذه التنظيمات “الحركة من أجل اللأمة” التي يرفض الاعتراف بها حتى كجمعية، وحركة “البديل الحضاري” التي رفض الاعتراف بها حتى كحزب وطني، و”جماعة العدل والإحسان” التي تعاني من مضايقات مختلفة. وقد حوصرت المقاطعة أو الموقف لهذه التشكيلات إضافة إلى تنظيمات أخرى إسلامية ووطنية ويسارية وعلمانية. وقد تم اعتقال مناضلين في هذه الحملة وقبلها من الحملات لتوزيعهم بيانات على الناس بشأن المقاطعة ، وقد تم تجريمهم.

الملحظ الخامس: أعطت نتائج الانتخابات- حسب تصريح الداخلية والأجهزة الرسمية- نسبة مشاركة تقارب 52% أما نسبة البطائق الملغاة في المشاركة فهي 15% حسب تصريح نفس الأجهزة، أي أن المشاركة الفعلية ستكون دون ال50% مما  يجعل أكثر من نصف الشعب خارج اللعبة. وهذا بيان واستنتاج على أن حزب المقاطعة هو الفائز الأكبر بشكل ساحق في هذه الانتخابات بينما تتوزع الاقلية المصوتة على ستة وعشرين حزبا! ومع كل هذا فقد استغلت البادية والأمية والفقر وأوضاع المرأة والبطالة والعقلية المخزنية، وهي أوضاع تستغل في كل الانتخابات.

هذه المقاطعة المعبرة جدا، مع الأرقام “المفاجئة” لحزب العدالة والتنمية أصابت الجهات المتنفذة ومعها أحزاب البلقنة المشاركة في اللعبة بصفعة قوية وذهول شديد، جعلها تنصرف إعلاميا عن واقع الحال لتؤخر الإعلان الرسمي عن النتائج، وتسلك سلوكا مخالفا لما كانت تسلكه من قبل، عندما كانت الأمور تزور بشكل فادح فاضح أيام الهيمنة الشخصية لإدريس البصري على أجهزة الداخلية والإعلام وما يتصل بها من أجهزة الدولة. وقد كانت حينها الذمم تباع وتشترى عيانا بيانا وتتهافت الأحزاب ومرشحوها على  المزاد العلني لشراء الأصوات.

الملحظ السادس : الفوز ا لهائل  الذي حققه حزب العدالة والتنمية بالرغم من كون تغطية الترشيح لهذا الحزب كانت محددة أصلا في 60% نظرا لاعتبارات داخلية وخارجيبة. ومع ذلك فقد فاجأ هذا الحزب الساحة بعدد من مقاعد الفوز يضاعف ثلاث مرات ما كان عليه سابقا، ويزاحم الاحزاب العتيدة ويجاوز الاحزاب المخزنية بكثير. هذا يعطي مؤشرا على فاعلية الاسلام واختيار الشعب له. وقد جاءت هذه النتائج بفضل بعض التحسن المذكور على المستوى الشكلي من تقوية إعلام الدعاية للمشاركة والتصريح بوعود عدة وتقليل تدخل المخزن والداخلية وتسخير أموال الحرام. وقد حصل هذا أيضا رغم سياسة الإقصاء والمضايقات التي طالت القوى  الإسلامية الأخرى وفي طليعتها “الحركة من أجل الأمة” و”البديل الحضاري” و”العدل  والإحسان”. وقد تكرر هذا المشهد “ديمقراطيا” في مصر والجزائر وتركيا. والمغرب الآن يعطي صورة أخرى له .

الملحظ السابع : كل الأحزاب  المتبارية في  الحِمَى لاتملك مشاريع حقيقية ذات جدوى  ولاتحمل برامج واقعية للتطبيق، بل ليس أمامها بعد آليات فعالة لتطبيق ذلك. بقدر ما تتطابق وتتشابه في وعود وشعارات من صنف:  القضاء على البطالة وحرية ا لمرآة وتحسين طروف العمل، والاهتمام بالعالم القروي، وضمان الوحدة الترابية.. وفي كل حملتها ودعايتها تزايد على بعضها البعض، وعلى أسلافها من الحكومات والبرلمانات السابقة. من غير مشروع وبرنامح وخطط جدية للإصلاح والفعل والتغيير، ووضع الأصابع على المكامن الحقيقية للداء بل الأسباب الحقيقية للعلل المذكورة.

خلاصة الأمر:

نقول بأنه إذا حصر الأمر في الانتخابات وحدها فإنه قد وقعت خروقات جسيمة من طرف المخزن وأجهزته قبل وأثناء خوض اللعبة، أهمها: مصادرة الأصوات الأخرى من مؤسسات ونخب المجتمع المدني في حقها في المواطنة والحرية والوجود المؤسساتي ثم مصادرتها في شرح دواعي مقاطعتها أو تحفظها أو ملاحظاتها وتعليقها أثناء خوض اللعبة وبعد ذلك. وتسخير أجهزة الدولة، ومنها الإعلام، لطرح رؤية المخزن فقط. ومصادرة حقوق المواطنين في تسجيلهم أوسحب بطائقهم والتصرف فيها أو التأثير عليهم بشكل أوبآخر للتصويت، ضدا على إرادتهم أو استغلالا لأوضاعهم. وعدم التخويل لمراقبين محايدين نزهاء من الداخل ومن الخارج لحضور العملية من بدايتها إلى نهايتها بما في ذلك جميع مراحل الإجراء وإفراز النتائج إلى الإخراج النهائي لها.

وقد أثبتت هذه الانتخابات أن جمهور المقاطعة هو الذي يمثل الأغلبية الكبرى. وكأن الشعب ينقسم إلى فئات ثلاثة رئيسية :

- فئة مشاركة بالرغم من الظروف المطروحة وقد تتعدد عناصرها هي الأخرى.

- فئة مقاطعة غير مكترثة بأي ظرف يطبعها العزوف واللامبالاة واليأس.

- فئة مقاطعة بشكل مسؤول، فهي بين طرح شروط أو تحفظات أو بدائل وتنظر إلى ما هو أبعد.

كما أثبتت هذه الانتخابات من حيث مجس العدالة والتنمية أن صوت الاسلام كبديل هو المسموع عند الشعب والمحترم، والذي يملك المصداقية ويعطيها لمن يحمل شعاره وهمه، فبله من يملك ا لقدرة على تنزيله وتخريج برامج منه ومشاريع تتواءم مع واقع الناس وتنفعهم. وهذا ما تعارضه باقي الأحزاب الملتفة – وإن اختلفت- في إطار العلمانية، وتواجهه بشتى الوسائل.

ومع كل هذا، فليس المشكل أو الحل في الانتخابات نفسها أو وحدها، حتى وإن جرت بشكل نزيه، ولا في إفراز برلمان مبني على ذلك، أو منسجم التركيب، أو متكافئ القوى، أو غير هذا لأن موضوع  الديمقراطية بالمغرب لاينحصر في وضعية الانتخابات التشريعية أو الجماعية أو بعض المؤسسات هنا وهناك. ولكن مربط الفرس يكمن في الإصلاح الدستوري والسياسي الذي مازال معلقا منذ عقود ولم تركز عليه – للأسف- القوى المتبارية  المتهافتة على  مقاعد البرلمان والبلديات والجماعات والغرف والحقائب الوزارية، وإصلاح السلط المسيرة للدولة وفصلها عن بعضها البعض وتوضيح صلاحيتها، وإصلاح القضاء مع ضمان فاعليته وشموليته للجميع ونراهته واستقلاله وإصلاح المؤسسات المختلفة في البلاد وتنقيتها من الفساد الإداري. ووضع حد للفساد والمفسدين، والتمكين لديمقراطية حقة ترضي الداخل أولا، لاديمقراطية وهم ومؤسسات يموه بها على الخارج لدواعي يعرفها الجميع.

ذ. عبد الوهاب الفُغري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>