يبدو أن دانات المدافع ورائحة الدم والبارود لن تكون اللغة الوحيدة التي يتعامل بها الصهاينة مع العرب بعد الآن، وأن الدم والجسد العربي أصبحا لا يطفئان نهم وشراهة الصهاينة.. ويبدو أن اغتصاب الأرض وهدم الديار وتشريد البشر لم يعد كافيا من المنظور الصهيوني لتحقيق حلم الجلاد، ومن ثم فلم يكن غريبا أن يمتد هذا الحلم ليشمل تكميم الأفواه ومصادرة العقول والأقلام ـ وربما حتى تجريم الأحلام ـ بحيث يتم سلخ الضحية بسكين بارد دون أن تبدي أي تململ ودون أن تجرؤ حتى على الصراخ.
ويبدو أن الصهاينة قد عثروا على ضالتهم المنشودة في تكميم الأفواه ومصادرة حق العرب في الصراخ تحت أنقاض عاصمة النور باريس، بعد أن نجحوا في استغلال القانون الفرنسي كمطية لإرهاب الشعوب وتدمير التاريخ، وإعادة كتابته من جديد بشكل محرف يخدم أهدافهم وتطلعاتهم ويخفي مخططاتهم وألاعيبهم، حتى يُسلِّم العالم بأسره بأنه أصبح الآن في قبضتهم بالكامل.
أما صهوة الجواد الذي امتطاه الصهاينة في القانون الفرنسي فقد تجسدت في قانون ” جيسو ” الصادر عام 1990 ومقصلة ” معاداة السامية ” التي تضمنها قانون الصحافة الفرنسي، وهي التهمة التي لاحق بها اللوبي الصهيوني في باريس نقيب الصحفيين المصريين والعرب إبراهيم نافع مؤخرا في شارع بوليفار باليس وأمام القاضي الفرنسي بودان توفينو، بعد أن أقامت جمعية يهودية تدعى الجمعية الدولية لمكافحة العنصرية دعوى قضائية تتهمه فيها بالتحريض على الحقد العنصري ومعاداة السامية في ثنايا إحدى مقالاته بجريدة الأهرام المصرية.
الغريب أن المقال المذكور تناول تفاصيل واقعة تاريخية ثابتة وموثقة، ولا يكاد يخلو من ذكرها مؤلف أوروبي كنسييتناول تاريخ المنطقة العربية في حقبة منتصف القرن التاسع عشر، ألا وهي واقعة ارتكاب 16 يهوديا لجريمة قتل الأب الفرنسي توماس الكابوتشي التابع لإبراشية الكابوتشين في روما ـ والذي مازال ضريحه قائما حتى اليوم بكنيسة الفرنسيسكان بحي باب توما في مدينة دمشق السورية ـ وخادمه ابراهيم إمارة بمدينة دمشق في الخامس من فبراير عام 1840، أي في أواخر عهد ولاية محمد علي باشا الكبير علي مصر وسوريا، وهي الجريمة التي تمت محاكمة مرتكبيها اليهود بناء علي بلاغ القنصل الفرنسي في دمشق وصدرت الأحكام بمعاقبة بعضهم بالإعدام والبعض الآخر بالسجن المؤبد، إلا أن الأحكام لم تنفذ استجابة لتدخل بعض القناصل الأوروبيين لدى الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت.
مثل هذه الواقعة الثابتة ـ وبالطبع أي واقعة أخرى تتعرض لليهود من قريب أو من بعيد ـ من الممكن أن تعرض ـ بموجب قانون جيسو وقانون الصحافة الفرنسي وتعديلاته ـ كل من يتناولها أو ينقلها عن آخرين لعقوبة تصل إلى حد الحبس سنة وغرامة تصل إلى300 ألف فرنك، رغم أنها واقعة تاريخية والتاريخ تراث مشترك للانسانية وملك للجميع وليس لفئة بعينها.. بيد أن القانون الفرنسي ومقصلة ” قانون جيسو ” لا يعترفان بشئ اسمه تراث الإنسانية ولا يقيمان وزنا للتاريخ، وبخاصة إذا ما كان هذا التاريخ يتعلق باليهود..
فما هي حيثيات ” قانون جيسو ” هذه التي تتيح لليهود حق مقاضاة أي شخص يتناول أية واقعة تاريخية تخصهم بتهمة معاداة السامية ؟! ومتى نشأت هذه التهمة ؟ وكيف تمكن اللوبي الصهيوني من فرضها على قوانين بعض الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها ؟
قانون جيسو المشبوه
نشأت فكرة معاداة السامية تاريخيا بسبب التصنيف الذي وضعه هتلر في ظل الفكر النازي بين الحربين العالميتين، إذ اعتبر آنذاك أن اتباع اليهودية هم أساس البلاء في الأرض وبالتالي فإنه يجب القضاء عليهم، وبعد الحرب العالمية الثانية استمر اتباع اليهودية تحت هذا الاضطهاد، إلا أن مصطلح معاداة السامية لم ير النور سوى منذ نحو50 عاما فقط علي يد ناحوم جولدمان ـ رئيس الوكالة اليهودية ـ الذي كان بن جوريون قد طلب إليه آنذاك مساعدة دولة إسرائيل الوليدة عن طريق توفير مبلغ كبير من المال لها، وبينما كان جولدمان في طريقهإالى نورمبرج لحضور جلسة محاكمة أحد مجرمي النازية طرأت عليه فكرة أن يطلب من الألمان دفع المبلغ المطلوب لدولة إسرائيل على سبيل التعويض عن جرائمهم.
وهكذا صارت التعويضات سُنَّةً لدفع تهمة العداء للسامية، التي أضحت شيئا فشيئا من الأكليشيهات الجاهزة التي تَصِمُ بها الدوائر الصهيونية من تشاء في ضوء سياسة الابتزاز التي برعت فيها، وبخاصة بعد نجاحه في ترسيخ عقدة الذنب لدي الشعوب الأوروبية، وسعيه للمطالبة بإصدار قوانين تكفل له الحماية وتضمنعدم تكرار هذه المأساة مرة أخرى، ومن ثم بدأت بعض الدول الأوروبية في تعديل قوانينها فنشأت القوانين التي تحذر من معاداة السامية.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الصهاينة يوزعون الاتهامات يمينا ويسارا لإشاعة جو من الإرهاب الفكري لدى كل من تسول له نفسه أن ينتقد الدولة العبرية أو يشكك في أعداد ضحايا الهولوكست وأفران الغاز من اليهود، ومن ثم عمدت آلة الدعاية الصهيونية إلى ترسيخ فكرة أن هناك خطة لاستئصال اليهود فيزيائيا، وأن هناك ما بين خمسة وستة ملايين يهودي لقوا حتفهم على يد هتلر في غرف غاز مخصصة لإبادة الكائنات البشرية بمعسكرات الاعتقال.
أما قانون جيسو فقد صدر في فرنسا عام1990 ونصت المادة (24 مكرر) منه على تجريم ما أسمته بالتشكيك فيما انتهت إليه محكمة نورمبرج من تحديد عدد ضحايا النازية من اليهود بستة ملايين يهودي.
وحين قدم باحث ومؤرخ فرنسي يدعى هنري روك في منتصف الثمانيناترسالة دكتوراه في جامعة نانت يناقش فيها وثائق الضابط النازي جرنشتاين واعترافاته، ويفندها أكاديميا في مجال بحث ومناقشة النصوص التاريخية، ثارت ثائرة اليهود واللوبي الصهيوني في فرنسا وجندوا وسائل الإعلام الضخمة التي يهيمنون عليها لمهاجمة هنري روك ووصمه بمعاداة السامية.
واضطر وزير التعليم العالي الفرنسي آنذاك إلى سحب الدرجة العلمية من الباحث في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البحث العلمي والجامعي في فرنسا، بعد أن كان قد حصل عليها بدرجة امتياز.. ولم يجرؤ أحد على نشر نص هذه الأطروحة ولم يقرأها أحد من الذين انتقدوها أو أدانوها، غير أن دور نشر صغيرة بادرت بنشر الرسالة في كتاب، فما كان من الحكومة الفرنسية إلا أن أصدرت قرارا بمنع بيع وتداول الكتاب استنادا إلى قانون جيسو الذي يحد بشكل مخز من حرية التعبير والنشر لأبحاث المؤرخين المقيمين على الأراضي الفرنسية بحجة محاربة النعرات العنصرية والطائفية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أقدمت فرنسا في22 سبتمبر2000 على تعديل نص المادة 24 من قانون الصحافة الفرنسي الصادر في29 يوليو1881 ( دخل التعديل حيز التنفيذ في أول يناير2002 ) لتنص على جريمة التحريض علي التمييز العنصري أو على الكراهية أو على العنف ضد فرد أو طائفة من الناس، وهي جريمة قائمة بذاتها وتعد من فئة الجرائم التي تقع بمجرد نشر الأمور التي تنطوي على التحريض على أحد الأمور السالفة الذكر، ولو لم يترتب على ذلك وقوع ضرر معين، وقد حدد القانون الفرنسي عقوبة الحبس في مدة سنة وغرامة قدرها خمسة وأربعون ألف يورو لكل من يقترف هذه الجريمة.
واعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن تجريم هذا الفعل لا يعد خروجا على حرية الرأي والتعبير المنصوص عليها في المادتين 9ـ1 و10ـ ا من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وأنه يمثل ضمانة ضرورية للسلم العام وحماية النظام وحقوق وحريات الغير، بل وتوسع القانون الفرنسي في مفهوم الطائفة فنص في المادة 225ـ 1 من قانون العقوبات المعمول به ابتداء من1 مارس1994 على أن التمييز يشمل كل تمييز بين الأشخاص بسبب المنشأ أو النوع أو الوضع الاجتماعي للأسرة أو الحالة الصحية أو الإعاقة أو الأخلاق أو الآراء السياسية أو النشاط النقابي أو الأصل أو الأمة أو السلالة أو الدين.
وبالاضافة إلى ذلك فقد أجاز المشرع الفرنسي بمقتضي نص المادة 48 ـ1 من قانون الصحافة ( المعدلة بالقانون رقم 2001ـ 434 الصادر في21 مايو2001) للمؤسسات أو الجمعيات التي أنشئت قبل ارتكاب الجريمة بخمس سنوات على الأقل ( إذا كان من بين أهدافها الدفاع عن التمييز العنصري المبني على المنشأ أو الأصل أو السلالة أو الديانة ) أن تتولى مباشرة الحقوق المقررة للمدعي بالحق المدني فيما يتعلق بالجرائم المنصوص عليها في المادتين 24 و 32.
عمرو سلمان
في العدد المقبل : ضحايا قانون “جيسو”