اعتناء السوسيين بالعلـوم
إن منطقة سوس تزخر علما ومعرفة فهي لا تقل أهمية من حيث المكانة العلمية، والانتاجات الأدبية عن مناطق المغرب الأخرى كفاس، ومراكش وغيرها بعدما عرفت ركودا، وانطواء في القرون الماضية كالقرن الخامس، والسادس، والسابع فالثامن، حيث لم تكن فيها حركة علمية واسعة إذ لولا أفراد قليلون أضاءت حركتهم بصيصا من النور عن هذه الفترات التاريخية كأبي موسى الجزولي المتوفى سنة سبع وستمائة (607هج)، وأبي يحيى الكرسيفي المتوفى سنة خمس وثمانين وستمائة(685هج) المفسر والمحدث الكبير، وغيرهم كالذين كاتبهم ابن البناء العددي المتوفى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة(721هج)، وجاذبهم علم التوقيت فذكرهم في بعض كتبه .
فلولا هذه الأعمال وهؤلاء الأعلام لما عرفنا شيئا عن علم هذه المرحلة، ولانطوت السنون بسرها تخفي جهود هؤلاء في إحياء العلوم، وتنشيط الحركة الثقافية في هذه المنطقة من المغرب .
إلا أنه حين إمعان النظر في السبب الحقيقي لطمس أخبار هذه القرون الماضية نجد أن ” السبب الوجيه هو ما ابتلي به السوسيون إلى اليوم من عدم الاعتناء برجالهم -والتفريط دائما لا ينتج عنه إلا الجهل المظلم-وهذا العيب لا يزال فيهم ماثلا إلى الآن كأنه ممتزج بدمائهم مستحوذ على ألبابهم ” فلولا جهود بعض المؤرخين لما رأينا لعلماء القرن التاسع إلى الآن شيئا؛ لذلك فلولا التشوف للزيات لما ظفرنا ببعض صوفية سوسيين، ولولا مؤرخون آخرون غير سوسيين لما عرفنا علماء فطاحل من سوس نزلوا القيروان ، ومراكش، وفاس، والرباط وغيرها .
و مع بداية القرن التاسع بدأت النهضة العلمية تبرز إلى الوجود وظهرت آثارها في التدريس، والتأليف، وكثرة تداول الفنون والعلوم ،وشاركت عدة قبائل في ازدهار هذه الحركة كسملالة، وبعقيلة، ورسموكة ،وآيت حامد، وآقا ، وغيرها.
واستمرت هذه الحركة في القرون اللاحقة إذ طلع القرن العاشر بحركة علمية أدبية أشمل وأوسع مما قبلها، فزخرت سوس بالدراسة، والتأليف، وإرسال البعثات إلى فاس، ومراكش، والأزهر، وزخر العهد السعدي بأعمال الونشريسي المتوفى سنة أربع عشرة وتسعمائة (914هج)، وابن غازي المتوفى سنة تسع عشرة وتسعمائة(919هج)….وغيرهم فكل ما يدرس في القرويين يدرس في سوس.
وبرزت الثورة العلمية في القرن الحادي عشر تمثلت في أعمال فطاحل العلماء؛ حيث برزت فتاويهم قوية بارزة دارسة لأحوال العصر، وحوادثه كفتاوى عبد الله بن يعقوب السملالي المتوفى سنة اثنتين وخمسين وألف (1052هج) ، وعلي بن أحمد الرسموكي المتوفى سنة ثلاث وسبعين وألف (1073هج) ، وسعيد الهوزالي المتوفى سنة إحدى وألف (1001هج) ، ومحمـد التامانارتي المتوفى سنة إحدى وسبعين وتسعمائة ( 971هج) ، وغيرهم.
وفي عهد الدولة العلوية ازدهرت المنطقة السوسية علما، ومعرفة، وعاشت أوج تطورها فكثرت المدارس العلمية، وزخرت بالطلبة، والمتعلمين، واتصل المولى إسماعيل بالعلماء فكانوا يلاقونه بقواف طنانة .
واعتنى محمد العالم بكل علماء المنطقة حيث فتح لهم الباب على مصراعيه، واستقدمهم لمجلسه الخاص حيث يجيزهم بجوائز كثيرة .
واستمر الاحتفاء بالعلماء السوسيين في عهد الدولة العلوية، إذ لم يكن اعتناء محمد العالم مختصا بالعلماء أرباب الفنون فقط، بل كان له اهتمام بالأدب وأهله وحين صادف في الأدب السوسي ما أعجبه قال كلمته الخالدة :” إني لم أفرح بقيادة سوس كما فرحت بوجود هؤلاء الأدباء فيه “.
ثم لما رحل المولى الحسن الأول إلى سوس رحلتيه الأولى سنة تسع وتسعين ومائتين وألف (1299هج)، والثانية سنة ثلاث وثلاثمائة وألف(1303هج) استقبل كل العلماء بترحاب عظيم فأجاز، وكتب كل الظهائر للقضاة، وقدم أرباب العلم على أرباب الرئاسة، فقد قيل إنه لا يولي قائدا حتى يسأل عليه علماء سوسيين يحضرون معه في ركابه، وفي مقدمتهم سيدي أحمد بن إبراهيم السملالي ، وأمثاله . واستمر الاعتناء بعلماء سوس على مر العصور، إذ لم يزل ملوك الدولة العلوية يقدمون في سوس علماءها قبل رؤسائها.
وأما من الناحية الأدبية فقد بلغت النهضة العلمية السوسية أشدها في العهد السعدي، ثم لفظت أنفاسها مع انهيار محمد العالم العلوي بعد إلقاء بعض روائعها في حضرته، فكان عمرها نحو مائتي سنة شهدت فيها أروع تطورها، وأبهى مجدها .
مراكز الدراسة في سوس ومناهج التعليم فيها
إن نظام المدارس لم يكن معروفا في المغرب إلا في عهد الموحدين، فأسس المغاربة مدارس بفاس، ومراكش، وطنجة، وسبتة .
وتأخر تأسيس هذه المدارس في سوس إلى حدود القرن العاشر تقريبا حسب ما أكده المختار السوسي مؤرخ هذه المنطقة، إذ معظم المدارس السوسية أقيمت في عهد الدولة العلوية الشريفة .
وأصبح هدف هذه المدارس هو نشر الثقافة الإسلامية من حيث معارفها، وعقائدها، وأخلاقها، وشرائعها، وعلومها، ونشر اللغة العربية، وقواعدها، ومبادئها لفهم كتاب الله، وسنة رسوله الكريم . وقد تميزت هذه المدارس منذ نشأتها بالبساطة، والتواضع في عمرانها، وتجهيزها، وسيرها العادي .
ونظرا لحماسة القبائل السوسية لإنشاء المدارس، والمؤسسات التعليمية فقد انتشر العلم بين صفوف الطلاب، وأبناء القبيلة حيث رأت كل قبيلة :” أن من الواجب عليها تشييد مدرسة علمية خاصة بها يدرس فيها العلم العربي ” تمدها بالأعشار، والأحباس، وبأموال بنيها يدفعونها سنويا بنظام خاص في يوم معين يؤدى فيه للمدرسة كل ما تتوقف عليه من مواد لضمان السير العادي لتلك المؤسسة كما يؤدى للأستاذ المشارط ما اتفق عليه مع أعيان القبيلة ،مما يكفيه طيلة سنة، وما يكفي الطلبة الذين يتابعون دراستهم في المدرسة .
وتنافست القبائل في إنشاء المدارس التعليمية، وتجهيزها بكل ما تحتاجه حتى عد من باب الافتخار، والاعتزاز، والمباهاة، فقل وجود قبيلة سوسية مهما كان حجمها ليس لها معهد علمي يؤمه الأفاقيون الذين يقصدون أي مدرسة شاؤوا مدفوعين بما توفر لها من سمعة في المجال الثقافي، ومن موارد اقتصادية، تؤمن حاجياتهم طيلة مقامهم بها، وكل طالب يتمتع بشبه نظام داخلي مع بعض الاختلاف الناشئ عن عادات القبائل بحيث يسكن مجانا ،ويتناول ما يعطى لعموم الطلبة إن شاء ،أو ينفق على نفسه إن كانت أسرته قادرة على تمويله، وقد وجد العلماء بسبب المشارطة، والمدارس العلمية مصدرا لوضعية اجتماعية تضعهم في أعلى سلمها فهم يزاولون إضافة إلى التدريس القضايا التي تعرض عليهم من أفراد القبيلة، أو غيرها؛ لأن أستاذ المدرسة العلمية في سوس بمنزلة القاضي الرسمي للقبيلة، وفي البيئة السوسية نظرة خاصة إلى العلماء الذين يختارونهم للمؤسسات الثقافية تنطلق من كونهم طبقة متميزة ينبغي لها أن تعيش بكرامة، ولو في وسط يغلب عليه الكفاف، والعلماء أيضا يعتقدون أن لهم مزايا على غيرهم، وأنهم يستحقون العيش بوتيرة خاصة مقابل الجهد العلمي، والسعي المتواصل لنشر المعرفة.
وتتعدد اختصاصات أستاذ المؤسسة فهو المدرس، والمدير، والقيم، ومع أن العرف يجري في سوس على أن المؤسسات الثقافية مفتوحة لكل من قصدها لا يسأل من أين؟ ولا أين ؟ إلا أن إدارة شؤونها التعليمية بيد أستاذها، فهو الذي يقبل من شاء من الطلبة، ويصرف من شاء .
وأما عن نظام الالتحاق بهذه المدارس العلمية فيرتبط بشروط لا يجب الإخلال بها إذ يلتحق الطالب بالمدرسة العلمية بعد أن يستظهر القرآن الكريم الذي كان حفظه شرطا في الالتحاق بها. فيبدأ بالآجرومية وحدها، ويحفظ جميع الحقائق فإذا أتمها بعد ثلاثة أشهر أو أربعة يعيدها مرة ثانية، ويقرأ معها الجمل للمجرادي، والزواوي، ثم ينتقل إلى المبنيات، واللامية، والألفية بشرح المكودي، والبهجة للسيوطي.
وحين الانتهاء منها بحفظها، واستعابها، وشرح معانيها، وفهم شواهدها، وإعرابها ينتقل إلى باقي العلوم مع حفظ المتون المقررة، واستيعابها فيبدأ بالفقه، فالتفسير، ثم باقي العلوم الأخرى إذ يكون الطالب ملزما بحفظ المتون كلها، وفهم معانيها، والتعمق في قضاياها، وكتابة كل الشواهد، والقيود، والتقارير المفيدة، وأبيات القواعد .
وعلى كل حال فلا تخلو مدرسة من اتباع هذا المنهج في الدراسة، والتعليم إذ كان الطلبة يعتنون اعتناء خاصا بالعلوم العربية رغبة في إتقان هذه اللغة الكريمة، وفهم قواعد الدين لذلك يحرسون على أن يكون هذا العلم أول ما يتلقونه في المؤسسات الثقافية ببيئتهم حتى يرسخ في أذهانهم، فتأتي بعد ذلك العلوم، والفنون الأخرى بمتونها، ومصادرها المعتمدة، وقد سبقتها أرضية ملائمةللفهم، والإدراك، وتربية الملكة .
وقد وجدت مدارس عديدة في القطر السوسي منها ما يزال صداها عاليا إلى اليوم، وتخرج منها علماء طارت شهرتهم في الآفاق، وتركوا كتبا خلدت اسمهم بين علماء المشرق، وعلماء المغرب، ومنها ما اختفى وجودها، وانمحى أثرها بوفاة عالمها، أو رئيسها.
وسأشير – إلى أهم المدارس، وأشهرها، وأهم العلماء الذين تخرجوا فيها، أو أسسوها، أو الذين عرفت المدارس بأسمائهم، أو باسم القبيلة التي أنشئت فيها في العدد القادم إن شاء الله.
ذ. لطيفة الوارتي
باحثة كلية الآداب وجدة