قضية التعليم من القضايا التي تشغل اهتمام الدول المتقدمة والنامية خاصة، لأن دور التعليم ووظيفته في المجتمع الحديث يعد من الأدوار الهامة التي ترتبط بعمليات التطور والتحديث والتنمية والتقدم، كما تؤثر عمليات التعليم في بناء القوى البشرية القومية والمكونة لجميع عناصر ومقومات الانتاج والذي أصبح أحد العوامل الرئيسية لتحقيق استراتيجيات ا لتنمية.
والمدرسة العمومية منذ نشأتها وهدفها تحقيق التقدم والمساواة في التعليم وضمان الحرية للإنسان وفكه من قيود الجهل وتهذيب سلوكه وتطوير قدراته، وهكذا فتحت هذه المدارس أبوابها أمام جميع الأطفال البالغين سن التمدرس.
إن المدرسة كمؤسسة تربوية اجتماعية لها وظائف متعددة منها ما يخدم الأفراد ومنها ما يخدم المجتمع، وهذا ما يجعل وظائف المدرسة تختلف حسب نوعية المقاربة المستعملة، فالمقاربة النفسية تركز على وظائف المدرسة بالنسبة للفرد من حيث تعلمه ومساعدته على نمو شخصيته.. أما بالنسبة للمقاربة الاجتماعية فهي تهتم بوظائف المدرسة بالنسبة للمجتمع، ومن هذه الزاوية فإن الإهتمام بالمدرسة يختلف من مجتمع لآخر حسب طبيعة المشاكل التي تواجهها أو تخلقها المدرسة.
إن الحديث عن المدرسة انطلاقا من وظائفها يمكننا من معرفة خصوصياتها واختلافها عن المؤسسات التربوية والاجتماعية الأخرى كالأسرة مثلا، كما يساعدنا على معرفة أدوار هذه المدرسة وتجنب الغموض الذي يكتنف غاياتها وبالتالي الكشف عن الطاقة الكامنة التي بواسطتها تحقق هذه الوظائف.
أولا : وظيفتا الحِفاظية والمُحَــافظة :
تعني وظيفة الحفاظية حسب فيلارس أن المدرسة تحاول نقل تراث الماضي إلى جيل الحاضر بتبسيطه وانتفائه، وتعتمد على نظام تربوي منفتح على التجديد والتقدم فهي لا تنغلق في الماضي ولا ترفضه كلية، وفي هذا الإطار يقول دوركايهم : “إن المستقبل لا يمكن أن يتم تناوله من عدم، إننا لا نستطيع أن نبنيه إلا بواسطة أدوات تركها لنا الماضي”.
والوظيفة الحفاظية غالبا ما تتحول إلى وظيفة المحافظة، فتتعامل مع الماضي كقيمة في حد ذاتها وتبرر الجمود الاجتماعي والمدرسي محاولة لإعادة إنتاج نفس البنيات الاجتماعية التي أنتجتها.
ولا تخلو أي مدرسة من هاتين الوظيفتين، فهي بقدما تقدم التراث كقيمة في حد ذاته بقدر ما تحاول موقعة التلميذ في إطار الحضارة الإنسانية الحالية.
وهكذا فإن المقررات الدراسية تحاول الدمج بين إنتاجات السلف ومشاكل وإنتاجات الخلف، وذلك بمقادير مختلفة، هذه المقادير التي تحدد صدارة هذه الوظيفة أو تلك.
ثانيا : وظيفة الإعلام والتكوين :
إن المدرسة لا تقوم فقط بتقديم المعارف والمعلومات، وإنما تعطيها معنى ودلالة وشكلا يندرج في بنية التكوين، فهي تحاولالقضاء على الأمية عن طريق الكتابة والقراءة والمعارف، وفي نفس الوقت تقوم بتشكيل فكر علمي، وبذلك فهي تزاوج بين المعرفة (الإعلام) والفعل (التكوين) للتأثير في حياة المجتمع عبر المتعلمين.
إن المدرسة عندما تقوم بوظيفة الإعلام فإنها تقدم معلومات متناثرة وأحيانا متناقضة كأنها مجرد أخبار لا رابطة بينها ولا علاقة لها بالواقع المعيش للتلميذ.
لكن عندما تغلب المدرسة وظيفة التكوين على وظيفة الإعلام فإنها بذلك تقدم لنا تعليما كيفيا يربط المعرفة بالواقع، فتكون المعرفة وسيلة لدراسة وفهم الواقع، وهكذا يكون بمقدور المتعلم التحليل والتركيب والنقد والإستنتاج بل والتعامل مع واقعه بعقلانية ومحاولة مواكبة تطور المجتمع والمساهمة فيه، وبذلك ينتقل المتعلم من مستوى استهلاك المعرفة إلى مستوى إنتاجها.
إن وظيفة الإعلام تزود المتعلم بالمعلومات في المقابل فوظيفة التكو ين تؤثر فعليا في المتعلم وبعدها يؤثر المتعلم في المعرفة.
ثالثا : وظيفة التطبيع الإجتماعي والوظيفة السياسية
هناك تداخل بين الوظيفة الاجتماعية والوظيفة السياسية للمدرسة، فالتربية المدرسية تطبيع اجتماعي-سياسي، فهي تتبنى الأعراف والقيم الإجتماعية الموضوعة (وظيفة اجتماعية)، ثم إن المعرفة التي تزود بها المتعلم تكون متشبعة بإيديولوجية الفئات الإجتماعية المسيطرة، وذلك بهدف تكوين مواطن وفق نموذج اجتماعي-سياسي معين (وظيفة سياسية).
إن المدرسة في سبيل تحقيق وظيفتها الإجتماعية -السياسية تستعمل مفاهيم عدة حسب الظروف والمواقف كمفهوم التربية والتعليم والتدريس والتكوين، والتكوين المستمر والتوجيه لكن هذه المفاهيم هدفها واحد، وهو التأثير في حياة الفرد قصد تحقيق تطبيعه الاجتماعي -ويتم ذلك عبر مسلكين :
< المسلك الأول : يقوم على وقاية وحماية مجال المدرسة من عيوب المجتمع وحذف كل ما هو غير ملائم من البيئة الخارجية وتوفير بيئة اجتماعية مدرسية أكثر إثراء، وهذا ما يساعد على تكوين شخصية المتعلم تكويناً إيجابياً يتلاءم مع مستجدات التربية الحديثة وبذلك يتفاعل مع مجتمعه بشكل سليم.
لكن هذا المسلك يجعل من المتعلمين أفرادا غُرباء عن مجتمعهم والمدرسة بعيدة عن الحياة الاجتماعية.
< المسلك الثاني : يعتبر أن المدرسة لا تقوم بوظيفتها هذه داخل الفصول فحسب وإنما داخل المدرسة كلها كنظام اجتماعي تربط أفراده علاقات اجتماعية تراتبية رسمية وغير رسمية (التلاميذ فيما بينهم -التلاميذ والموظفون بالمدرسة -التلاميذ والمدرسون) فالمدرسة مجتمع صغير يستمد تنظيماته الاجتماعية وأنشطته وعلاقاته من المجتمع الكبير، وعلى التلاميذ الانصياع واحترام قوانين المدرسة وأحكامها.
وأصحاب هذا المسلك يرون أن المدرسة تحاول فقط إعادة إنتاج نفس البنيات الاجتماعية التي أنتجتها فوظيفتها الأساسية هي المحافظة أو الجمود.
إن التغييرات التي لحقت المدرسة هي ناتجة عن التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وليس العكس، ثم إن الأفراد ليسوا هم المعيار الذي نحكم به على المدرسة بل يجب الانطلاق من المجتمع.
إن المدرسة من خلال ممارستها للوظيفة التطبيعية تسعى إلى الوصول بالمتعلم إلى أن يكون في مستوى ما ينتظر منه من معرفة وسلوك ليندمج في الوسط الاجتماعي والمجتمع عامة على نحو يحقق التوازن في ذات الفرد من جهة وفيما بينه وبين المجتمع من جهة أخرى.
إن الوظيفة الإيديولوجية كوجه من وجوه الوظيفة التطبيقية تعتمد على المنظومة المعرفية، هذه المعرفة التي تعمل على تكوين اتجاه فكري خاص في الطفل تميل إلى تركيز التحامه بمجتمعه، وهكذا فالقيم السياسية والمذهبية والدينية الخاصة بالمجتمع هي التي تحدد المنظومة المعرفية وتنزع طابع الحياد عنها.
أما الوظيفة الإنتاجية للمدرسة فتبرز من خلال تحقيق مطالب المجتمع، فالمؤسسة المدرسية من وضع الدولة والمجتمع عامة، لذلك فقد جاءت لتخدم الدولة والمجتمع فيما يرميان إليه من أهداف.
إذا كانت وظائف المدرسة هي تزويد المتعلم بالمعارف وتكوينه ومحاولة ربطه بمجتمعه وواقعه الاجتماعي والسياسي من أجل المساهمة في التنمية الوطنية من خلال خلق جيل مثقف، فهل تمكنت المدرسة من الاستجابة لمتطلبات هذا المجتمع؟
يبدو أن مدارسنا لازالت غير قادرة على الإنفتاح على المحيط المجتمعي الذي انبثقت منه، فهي لازالت تعتمد التلقين كأسلوب لمخاطبة المتعلم ومدّه بالمعارف وهو ما لا يسمح بتبادل العلاقات بين المعلم والمتعلم لأن دور المعلم هنايقتصر على الإلقاء الذي يسمح لخطابه بالسيطرة والهيمنة على جو الفصل ويمنع مناقشته.
من جانب آخر لازالت هناك مصادرة لآراء التلاميذ وحقهم في التعبير عن الأفكار والإبداع ثم هناك طغيان الجانب الإداري على القيادة التربوية.
والانخراط في مسيرة التنمية وتأهيل المجتمع يستدعي إدخال إصلاحات وتغيير الصورة الحالية للمؤسسات التعليمية والتفكير في خلق مدرسة مسيرة بعقليات جديدة قادرة على استيعاب التحولات ومواكبة المستجدات. إذن يجب :
أولا التــركيـــز عـلـــى التــراث الثقـافـــي عــن طـــريــــق :
< بث واستقبال المعارف : فعلى المدرسة أن تسهل عملية التثقيف، ولبلوغ هذا الهدف يجب تجاوز الوضع الحالي الذي ينتقي مضامين معينة محددة وبالمقابل يقصي كل المعارف الأخرى، إضافة إلى ضرورة التعامل مع كل المواد وطيلة مرحلة التعليم الأساسي على قدر من المساواة.
ولقد أصبح التعليم الموسوعي متجاوزاً وثبت أنه يؤدي إلى تشتت أذهان التلاميذ وبعثرة جهودهم الفكرية، فهم يدرسون مواد كثيرة ولا يتفوقون في جلها -بل ونظراً لتداخل المعارف وتناسلها بين المواد- يصبحون أكثر عرضة للخطأ. إننا نعيش اليوم في عالم يتسم بتراكم المعارف وتناسلها بسرعة كبيرة حيث تطالعنا وسائل الإعلام بجديد الاكتشافات، كما أن العديد من النظريات والحقائق أصبحت عرضة للطعونات وعرفت إعادة نظر، لاستحالة مسايرة البرامج الدراسية، لكل هذه التحولات فإن المدرسة الجديدة مدعوة لتدريب التلاميذ على اكتساب المعرفة ومدهم بمنهجية وأدوات البحث وإكسابهم المقاربة النقدية عوض تقديم ما هو جاهز وغير قابل للنقاش.
< التربية على المواطنة : من المهام الموكولة للمدرسة العمل على تكوين المواطن الصالح، وإذا كانت بعض المواد كالتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية تمتاز بقدرتها على ترسيخ مجموعة من القيم النبيلة -نظرياً على الأقل- وضمنها المواطنة فإنها ومع ذلك لا يمكنها بمفردها تحقيق هذا الهدف.
إن المواطنة الحقة تقتضي أن يكون كل فرد واعيا بحقوقه وواجباته وأن يمارسها في حياته اليومية ويجب ألا نعتقد أن المدرسة الجديدة قادرة بمفردها على ترسيخ مفهوم المواطنة، فهذه الأخيرة هي أولا وقبل كل شيء سلوك يكتسب نظرياً ولكن أيضا عملياً وإقصاء هذا الشق العملي يؤدي إلى نتائج عكسية.
وبما أن المدرسة هي القناة الرئيسية لتربية الطفل وجعله مواطناً صالحاً فيجب التفكير بجدية في جعل المدرسة الجديدة قادرة على استيعاب مفهوم المواطنة وتجسيد الحقوق والواجبات واحترام الأدوار والوظائف.
ثانيا : دعم ا لاستقلالية وتحفيز الاجتهادات
< باعتبار شروط نجاح التلميذ : فمن مهام المدرسة حث التلميذ على التساؤل باستمرار حول المعارف وطرق اكتسابها وتعويده على البحث عن أجوبة الأسئلة المطروحة، وهذه البيداغوجية الحديثة تُناقض ما كان سائداً (أي تقديم أجوبة جاهزة لأسئلة لم يطرحها التلميذ) كذلك يرتبط التعلم بالنجاح الذي يولد لدى التلميذ الرغبة في المزيد من التحصيل واستمرارية التفوق.
وعلى المدرس مسؤولية تدريب التلميذ باستمرار على تحقيق ا لاستقلالية المعرفية بحيث يحيله إلى المصادر ويحثه على البحث والتنقيب والقيام بالتقويم الذاتي لواجباته ويصحح بمفرده أخطاءه ويندمج في إطار العمل الجماعي مع زملائه.
< وباعتبار المدرس مواطناً نشيطاً : فإن عليه أن يكون مواطناً نشيطاً وقدوة لتلاميذه وأن يسمح لهم بالملاحظة وإبداء الرأي ومعارضة أفكاره بل ويتقبل احتجاجاتهم وتحفظاتهم، فبلدنا بحاجة ماسة لمواطنين متشبعين بالفكر النقدي المبدع، علينا جميعاً وكمربين أن نتقبل ملاحظات التلاميذ بدل التفنن في أساليب مواجهة الاحتجاجات وعلينا أن نجتهد لاكتساب تقنيات الاقناع والتفنيذ بالحجج الدامغة.
وأخيراً يمكن القول بأن الاهتمام المستمر والمتزايد بالمتعلم هو في العمق اهتمام بالفرد والمجتمع ومكانة التلميذ في المؤسسة تعكس بوضوح مدى اهتمام طاقم المؤسسة بالتلميذ كفرد، وككائن تكفل له القوانين والمواثيق الدولية التمتع بكامل حقوقه المشروعة وذلك يتحقق بوضع أنظمة تعليمية تكون منسجمة مع طبيعة المرحلة القادمة والتي نعلق عليها آمالنا في التحرر والرقي.
ذ. غنية العلمي