جامع الزيتونة الذي لعب الدور الأكبر في حفظ الإسلام واللغة العربية في المغرب العربي، وهو إحدى أقدم الجامعات الإسلامية الثلاث في العالم، بناه الوالي الأموي” عبد الله بن الحجاب” بتونس سنة 114هـ = 732م ثم أعيد بناؤه في عهد محمد بن الأغلب؛ حيث اهتم الأغالبة بتعميره وتجديده وجعله دارة للعلم ومنارة للإسلام، ليس في تونس وحدها، بل في الشمال الإفريقي والمغرب العربي بأسره.
وهذا الجامع الجامعة الذي حفظ الله به تراث الإسلام وحضارته في هذه البقاع يمر الآن بأزمة خطيرة أقرب إلى لحظات الاحتضار؛ ذلك لأن موجة الحنث العظيم التي تجتاح المنطقة فيما يسمى بـ”تجفيف المنابع” قد ضربت هذا الصرح العظيم بالسهام المسمومة.
جامع الزيتونة الذي خرجت منه الحركات الجهادية ابتداءا من التي قامت بها البلاد الإفريقية على حكم “العبيدين” في أيام المعز بن باديس الصنهاجي، والمستنصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري، وانتهاءا بالثورات المتعاقبة على الاحتلال الفرنسي الأثيم.
هذا الجامع العتيد الذي كان قبلة الدارسين بالشمال الإفريقي لأكثر من ألف وثلاثمائة عام، وتخرج فيه أكابر العلماء وأئمة المجاهدين، صدر مرسوم عام 1933م اعتبر فيه جامع الزيتونة جامعة، وسمي شيخه “مديرا” وأصبحت الدراسة فيه على ثلاث مراحل:
1- الإعدادية: وتنتهي بشهادة “الأهلية”.
2- المتوسطة: وتنتهي بشهادة “التحصيل”.
3- العالية: وتنتهي بشهادة “العالمية” مع التخصص في القراءات وعلوم الشريعة والآداب،… وبعد استقلال تونس ألحق بالتعليم الثانوي وأضيف إلى مناهجه اللغات الأجنبية وبعض المواد العلمية العصرية.
وأخيرا.. صدر قرار وزير التعليم العالي المؤرخ في 20/12/1995م والمتعلق بضبط برامج “الأستاذية”في العلوم الشرعية والتفكير الإسلامي، وذلك بتنظيم الدراسة وبرامج التعليم بجامعة الزيتونة لتصبح على النحو الآتي:
1- المعهد الأعلى للشريعة، وقد خرج من جامعة الزيتونة تماما وألحق بالشؤون الدينية بداية من 1998م.
2- المعهد الأعلى للحضارة: وقد خصص للأجانب من مسلمي إفريقيا وشرق آسيا.
3- المعهد الأعلى لأصول الدين: للتونسيين وتوجه له وزارة التعليم العالي في بداية كل سنة 50 طالبا وطالبة فقط، جلهم من الإناث اللواتي تقارب نسبتهن %85.
وليست هذه هي قضيتنا إنما القضية أن “الزيتونة” قد أطبق عليها الخناق العلماني مما جعل زيتها يكاد لا يضيء، وهذه بعض فصول المؤامرة:
تهميش السُنَّة :
من النظرة الأولى لمناهج الدراسة في المرحلة الأولى: “السنة الأولى-السنة الثانية” نجد أن مجموع ساعات الدراسة بهما 1089 ساعة منها 520 للسنة الأولى، 559 للسنة الثانية، ونصيب السنة النبوية منها 29ساعة أي بنسبة %3,21 من ساعات الدراسة.
أما البرنامج الدراسي للسنة فهو: “إشكالية التدوين والتشريع” فهل ضاقت رحاب السنة في وجه علمانيي الزيتونة فلم يجدوا من السنة إلا إشكالية التدوين؟ وهل لديهم شك في أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي؟ وهل لديهم شبهة في حجية السنة؟ وهل يجوز أصلا -علميا- حصر السنة في هذه الإشكالية؟
وهل هذا هو نصيب السنة في أصول الدين؟
عدوان على الرسول صلى الله عليه وسلم والسيرة:
أما نصيب السيرة من ساعات الدراسة فهو 29 ساعة أي بنسبة %3,21 والبرنامج هو: “كتابة السيرة النبوية” والهدف منها كما وضحه التخطيط الدراسي للمعهد الأعلى لأصول الدين هو الوقوف على:
أ- التاريخي والأسطوري في رواية السيرة.
ب- الأغراض التمجيدية والتعبدية فيها.
ج- تصور الرواة لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهل يجوز أن يقال عن السيرة أسطورة؟ وأن لها أغراضا تمجيدية؟ وأنها مجرد تصورات وتخيلات من الرواة لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ولكن يبدو أن هذه البرامج لم توضع لتجلية حقائق الإسلام وإنما لنشر الشبه حول السيرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهناك ملحوظة جديرة بالإشارة إليها هي أن نسبة ساعات تدريس اللغات %24,96. ومن الجميل أن يجيد طالب العلوم الشرعية لغة أجنبية وأن يصبح داعية للإسلام بها في أرض الله الواسعة. ولكن ما فائدة هذه اللغة له و هو يجهل القرآن والسنة والعلوم الشرعية عامة، إذ يدرس منها ما يشككه فيها ويزعزع عقيدته من أساسها؟
علوم الإسلام.. تشكيك في تشكيك:
وجاء في بيان الهدف من دراسة المدخل إلى تاريخ الأديان الكتابية عبارة:” يهتم ببيان عقائد اليهودية والمسيحية… مع التعبير عن احترام مقولات أصحابها”.
والسؤال هنا: ما العمل في ما هو باطل من هذه الاعتقادات؟ وما هو مكذوب ومختلق وغير أخلاقي مما أنكره القرآن عليهم وخطأهم فيه؟ وهل الاحترام لهذه الملل والنحل فقط، والعدوان والتشكيك في الإسلام وحده؟
ثم جاء في الهدف من تدريس اتجاهات التفسير في العصر الحديث:”يرمي الدرس إلى تعليل انشغال علماء المسلمين على الوجه الذي تأولوا به نص القرآن”.
والسؤال هو: هل هذا التفسير هو تطويع النصوص لاهتمامات العلماء ورغباتهم وحاجات المجتمع، أم أن التفسير والتأويل له قواعده وضوابطه التي يحتكم إليها حتى لا يكون ا لتأويل غرضا للذين امتلأت قلوبهم بالزيع ابتغاء الفتنة، والاعتساف المرذول؟
ثم أبان “المجففون” الأهداف من دراسة “نشأة علم أصول الفقه” بقولهم: “يعنى بأصول الفقه من حيث هو علم منظم للعلاقة بين العقيدة وسيرة المجتمع” فما معنى هذا الكلام؟
نحن نعلم أن علم أصول الفقه” هو العلم الذي يتعرف منه استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الإجمالية” فما صلة هذا بتنظيمه للعلاقة بين العقيدة وسيرة المجتمع؟ اللهم إلا إذا أريد بهذا” الخطل” تنزيل الأحكام الشرعية على واقع الناس وليس مجال هذه الدراسة “أصول الفقه” إنما مجالها دراسة الشريعة الإسلامية.
وهل أغلق باب الاجتهاد؟
ثم جاء في بيان أهداف تدريس وحدة “تاريخ الإسلام”: “يهتم بدراسة مشاغل مفكري الإسلام في أربع فترات هي كذا وكذا… فترة نهاية الاجتهاد”.
والمعلوم أن جمهور علماء الأمة يذهبون إلى أن باب الاجتهاد لم يغلق، ولا يجوز إغلاقه ولا وضع نهاية له؛ لما يجد للناس من أقضية وأحداث تستوجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحا أمامها – لكن بشروطه- فلماذا نفرض على الأمة شيئا لم يقل به علماؤها؟
والأنكى من ذلك أن منهج علم “الاجتماع الديني” قد جاء في بيان أهدافه:” يهتم بتجديد علماء الاجتماع للظاهرة الدينية، وتأثر المقالات الدينية في الألوهية والنبوة والوحي والمعاد وكمال الخلق بشؤون المجتمع ومقتضيات الاجتماع”.
وهل الدين الإسلامي هونتاج بشري ناشئ عن حاجات المجتمع، أم هو:”وحي يوحى” من عند الله تعالى؟
وهل تتأثر الألوهية والنبوة والوحي في ديننا بشؤون المجتمع ومقتضيات الاجتماع، أم أن المجتمع والاجتماع هو الذي يتأثر بهما؟.
والواضح جدا من هذا البرنامج أن واضعيه قد اتخذوا من كل عدو للإسلام ومشكك فيه إماما لهم، ليضلوهم بغير علم، وقد اتخذوا- على سبيل المثال- من “دوركايم” اليهودي الذي جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية “العقل الجمعي” المصدر الوحيد لدراسة وحدة علم الاجتماع الديني.
من دوركايم إلى علي عبد الرازق:
أما منهج”المؤسسات ونظم الحكم في الفكر الإسلامي” فلم يجد هؤلاء العلمانيون أمامهم لتدريس هذا المنهج سوى كتاب”الإسلام وأصول الحكم” لعلي بعد الرازق، رغم أنه كتاب غير علمي بالمرة وأنه مليء بالمغالطات، وهناك شك كبير في أن مؤلفه هو الشيخ علي عبد الرازق(1)؛ فطه حسين شريك في تأليف هذا الكتاب “بالوثائق”، كما أن صاحبه قد تنصل منه في مقال كتبه بخط يده ونشرته مجلة “رسالة الإسلام” الصادرة بالقاهرة في مايو سنة 1951م قال فيه بالحرف الواحد:”إن فكرة روحانية الإسلام لم تكن رأيا لي يوم نشرت البحث المشار إليه “كتاب الإسلام وأصول الحكم”، ولقد رفضت يومئذ رفضا باتا أن يكون ذلك رأيي، إنني لم أقل ذلك مطلقا لا في هذا الكتاب، ولا في غيره؛ ولا قلت شيئا يشبه ذلك الرأي أو يدانيه”.
ثم قال عن كلمة “روحانية الإسلام”: “لعله الشيطان ألقى في حديثي تلك الكلمة، وللشيطان أحيانا كلمات يلقيها على ألسنة بعض الناس” ثم اعترف للعالم الأزهري الشيخ أحمد حسن مسلم واعظ الأزهر حينئذ بصعيد مصر فقال:” وهل أنا الذي ألفت هذا الكتاب:؟ إنما ألفه طه حسين”(2).
وقال طه حسين بالحرف الواحد:” على أني قرأت أصول كتاب الشيخ علي “الإسلام وأصول الحكم”-قبل طبعه-ثلاث مرات، وعدلت فيه كثيرا”.
فإذا كان هؤلاء يريدون تكريس فكرة علمانية الدولة لدى طلاب أصول الدين بحيث يصبح الإسلام دينا لا دولة له، ودولة لا دين لها فقد خانهم التوفيق في منهج علمي مكذوب ومزيف، ويجمل في طياته كل شبه التاريخ المعاصر في خيانة هذه الأمة دينيا وحضاريا وثقافيا.
وختامها …رجس.
أما الأساتذة-في ظل هذا المشروع العلماني -فإن معظمهم لا صلة لهم بالاختصاصات الشرعية، بل إنهم يختارون ممن يجهلون الإسلام، وكثير منهم معبأ بالشبه والانحرافات الفكرية حتى إن إحدى الأستاذات التي انتدبت لتدريس القرآن أعلنت بكل وقاحة لطلابها قائلة: “إن القرآن نزل مقدسا وكتب مدنسا”.
أما النشاطات الثقافية فتتمثل في النوادي الموسيقية والغنائية، والحفلات الماجنة، كما أن بالمعهد إذاعة داخلية تذيع الغناء في رحابه، إضافة إلى أن النوادي الرياضية تشتمل على السباحة”للفتيات” إلى جانب ألعاب الشطرنج والدامة والموسيقى، ومسابقات العدو “للبنات” أمام الذكور بل واستضافة المطربين والمطربات لإحياء الحفلات الغنائية حتى في شهر رمضان المبارك، وتتم الدعوة لهذه الحفلات من مدير المعهد شخصيا.
والعطلة الأحد:
وهل يتصور أحد أن تنتقل العطلة الأسبوعية “الزيتونية” من يوم “الجمعة” إلى يوم “الأحد”، ويصبح يوم الجمعة يوم عمل وتدريس؟
وهل يتصور أحد أن “الزيتونة” كان لها مسجد تم إغلاقه بأمر الرجل الأول في التعليم العالي لتجفيف المنابع؟
وهل يتصور أحد أن الرجل الأول في التعليم العالي- الوزير- هو كاتب شيوعي سجنه “بورقيبة” لمجاهرته بالإلحاد؟ وهو يرى أن قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}(الأنفال: 60). يراها آية تعلم التطرف والإرهاب والغلو؟.
حوار مبتور مع المدير المذعور:
ذكرني هذا الإرهاب العلماني الأخرق بأغرب حوار صحفي أجريته في حياتي عام 1992م مع الأستاذ “حمودة السحطي” مدير المعهد الأعلى للشريعة بجامعة الزيتونة، وكان ذ لك بمدينة الزقازيق بمصر أثناء انعقاد مؤتمر “الإسلام وتحديات الحاضر والمستقبل” الذي أقامته رابطة الجامعات الإسلامية، وأصر الرجل على أن تكون الأسئلة مكتوبة والإجابة يكتبها هو بخط يده- ولا زالت عندي- وكانت على هذا النحو:
س: ما رأيكم بالواجهة العلمانية التي تبدو على تونس الشقيق في الآونة الأخيرة؟
ج: الحزب الحاكم وريث حركة إصلاحية لجمع كافة القيم الروحية والوطنية.
س: أين يقع العمل الإسلامي على الخارطة الديمقراطية التونسية؟
ج :كل عمل فيه إصلاح عمل إسلامي
س: نريد أن نتعرف على مدى مساهمة المرأة التونسية في العمل الإسلامي المعاصر؟
ج: فيما يتمثل في العمل الإسلامي المعاصر هي تساهم في عملية التنمية.
س: ما هي روافد التعاون الإسلامي “بالاتحاد المغربي”-وكان قائما حينئذ-، وما هي الثمار الإسلامية التي تحققت من هذا الاتحاد؟
ج: التحابب والتعاون.
س: جامعة الزيتونة ما أحدث أخبارها، وما مدى صحة ما نسمعه من “علمنة المناهج الدراسية بها تماما”؟
ج: لا إجابة.
س: ما رأيكم في الإعلام التونسي والدور الذي يلعبه في “تمييع”قضية الإسلام؟
واستهلاك وتفريغ طاقات المجتمع التونسي المسلم؟
ج: أحكام مسبقة
س: كيف يؤدي المسجد التونسي دوره الآن؟
ج:هو يتبع قيم الإسلام السمحة والقيم الحضارية. انتهى الحوار.
ومن كان يصدق أن “الزيتونة” التي كان عدد طلابها في عهد الاحتلال الفرنسي أكثر من ثلاثين ألفا يصبح الآن نحو ستمائة وخمسين، منهم %85 من الإناث اللائي يفرض عليهن السفور والنزول إلى حمامات السباحة” بالمايوه” داخل جامعة الزيتونة؟
وأخيرا: الزيتونة” الجامعة الإسلامية العريقة” قلعة العلماء والمجاهدين..تستغيث، فهل من منقذ أيها المسلمون؟
1- انظر الإسلام بين التنوير والتزوير للدكتور محمد عمارة، ص: 28-96. // 2- انظر جريدة الجمهورية القاهرية، عدد 28/5/1993م.
> مجلة البيان ع 153
محمود خليل