دروس من سيرة المصطفى : الأمارات الكبرى للنبوة الخاتمة الأمارات الحسية (2)


-3 يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة

رجُل نَصيبين(1) ينصح سلمان الفارسي باللّحاق بأرض هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعطيه علامات هذا الرسول، فقد سأل سلمان رضي الله عنه الراهب والرجل الصالح الموجود بنصيبين عندما حضرته الوفاة، فقال له : إلى مَنْ تُوصي بِي؟؟ وبِم تأمرني؟؟ فقال : >أيْ بُنَيَّ، والله ما أعلم أحداً أصْلًحَ على مِثل ما كُنَّا عليه من الناس، آمُرُكَ أنْ تأتيه، ولكنه أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين ابراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مُهَاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتيْن، بينهما نخل، به علامات لا تَخْفَى. يأكل الهدية، ولا يأكل الصَّدَقَة، وبين كَتِفَيْهِ خاتم النبوة<(2).

وقبل أن يُسْلِم سلمان عمل على التحقق من هذه العلامات، فجمَع مالاً وجاء به إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال له : >وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كُلُوا وأمْسَك يَدَه، فقُلْتُ في نفسي هذه واحدة، ثم انصَرَفْتُ عنه فجمعْتُ شيئا، ثم جئتُه به، فقلت له : قد رأيتك لا تأكل الصدقة، فهذه هدية أكْرَمْتُك بها، فأكل رسول الله، وأمَرَ أصحابه، فأكلوا معه، فقلت في نفسي هاتان ثِنْتَان، ثم جئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ببقيع الغَرْقد قَد تبِعَ جنازَة رجُلٍ من أصحابه، وهو جالس في أصحابه، فسلمتُ عليه ثم استدرتُ أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتَم.. فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَدَبرتُه عَرَفَ أني أسْتَثْبِتُ في شيء وُصف لي، فألْقَى رِدَاءَهُ عن ظهره، فنظرتُ إلى الخاتم فعَرفتُه، فأكببْتُ علَيْه أقَبِّلُهُ، فقال لي صلى الله عليه وسلم تحَوَّلْ، فتحوَّلْتُ فجلستُ بين يديه، فقصصتُ عليه حديثي، كما حدثتُك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله أن يَسْمَع ذلك أصْحَابُهُ<(3).

4-  الهجرة ليثرب

لقد وردت هذه العلامة في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي أخذه عن راهب نَصيبين السابق، فجاء فيه >ولكنه أظلّ زَمَانُ نبيٍّ مبعوث بدين ابراهيم عليه السلام، يخرُج بأرض العرب مهاجَرُهُ إلى أرضٍ بَيْن حَرَّتين بينهما نخْلٌ<(4).

وذكر ابن اسحاق وغيره أن حَبْريْن من أحبار اليهود ذَكرا ذلك لتُبَّع، فقال : >فَبَيْنَا تُبَّعٌ على ذلك من قتالهم -أهل يثرب- إذْ جاءه حبْران من أحبارِ يهُود عالمان راسخان في العلم، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له : أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيْت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما : لم ذلك؟ فقالا : هي مهاجَرُ نبيٍّ يَخْرُجُ من هَذَا الحرَمِ من قريشٍ في آخِر الزمان، تكونُ دَارَهُ وقرَارَه<(5).

5-  الأمية

ذكرها الله تعالى بهذا الإسم مرة في الأعراف {الذِينَ يتَّبُعُون الرَّسُولَ(6) النّبِيَ الأمّيَ}  (الآية : 175)، وذكرها بالمضمون مرة أخرى في قوله {ومَا كُنْتَ تَتْلُو من قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ولاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لارْتَابَ المُبْطِلُون}(العنكبوت : 48). قال الفخر الرازي في تفسيره : >فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميا. قال أهل التحقيق : وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته.

وبيان ذلك من وجوه :

الأول : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى من غير تغيير ألفاظه، ولا تغيير كلماته، ومن غير زيادة ولا نقصان بينما الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لابد أن يزيد فيها بالقليل أو الكثير، فكان ذلك من المعجزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى}(الأعلى : 6).

الثاني  : لو كان يحسن الخط والقراءة لصار مُتَّهَماً في أنه ربما طالع الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {وَماَ كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ولا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ إذاً لاَرْتَابَ المُبْطِلُون}.

الثالث  : إن تعلم الخط شيء سهل، فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سَعْي، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم. ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين، وأعطاه من الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفَهْما، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضِّدَّيْن، وذلك من الأمور الخارقة للعادة، وجار مجرى المعجزات<(7).

——-

1- هو آخر الرهبان الصلحاء الذين تَعلَّم على يدهم سلمان.

2- خاتم النبيئين 242/1.

3-  ابن هشام بالروض الأنف 250/1.

4- خاتم النبيئين : 242/1.

5-  تهذيب سيرة ابن هشام،ص : 9، وهذا النص فيه أيضا : أنه يُبعث في مكة، (يخرج من هذا الحرم) وهذه معلمة أخرى قال مالك : بلغني أن طائفة من اليهود نزلوا المدينة، وأخرى خبير وطائفة فدك،  لما كانوا يسمعون من صفة النبي وخروجه في أرض بين حرَّتَيْن، ورجوا أن يكون منهم، وأخلفهم الله ذلك، وقد كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل بأسمائه وصفاته، أحكام القرآن لابن العربي 784/2.

6- قدّم الله تعالى وصف الرسول، لأنه الوصف الأخَصُّ الأهَمُّ، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقا على كل من أتى بعد موسى منأنبياء بين إسرائيل، ولهذا كانوا يقولون عندما يُفحَمون >لَيْسَ به أو ليسَ هو< هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم اشتهر بوصف النبي الأمي، فصار هذا المركب كاللقب له، فكان من المناسب ألا يغيَّر عن الوصف الذي اشْتهر به، فلذلك قدَّم الله تعالى الرسول، ثم النبي الأمي، والله أعلم انظر التحرير والتنوير 137/9.

7- نقلا عن محمد رسول الله لمحمد رضا ص : 79، انظر فيه ما قال المستشرقون وكيف فند ترهاتهم رحمه الله تعالى..

يكتبها : ذ. المفضل فلواتي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>