بإمكاننا أن نقرر من دون تردد أن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة قد استوت على طريقها الصحيح..طريق قد يغير من موازين القوى في المنطقة لصالح القضية الفلسطينية..طريق سيصوغ معادلات وتوازنات جديدة في المنطقة.
إنها انتفاضة شعبنا الفلسطيني الأبي التي تذكرنا بالجيل الفريد..جيل الصحابة والتابعين والصالحين من امتنا العظيمة. انتفاضة رفعت الإنسان-مطلق الإنسان- صعدا عن عالم الهوان والذل والإرادات المنهزمة.
لو أن طلائع الانتفاضة قرروا أن ينتفضوا من أجل التراب كتراب..والأرض كأرض، لهان الأمر ولقبل الفلسطينيون بفتات الحلول! لكن الأرض في منظور صحابة “القرن الواحد والعشرين” ليست طينا فقط تدوسه كل يوم أقدام البشر والحيوان، بل إن لهذه الأرض المباركة والمقدسة إحالات على العقيدة والثقافة والتاريخ.
إن الانتفاضة الفلسطينية في جوهرها دفاع عن الإنسان وكرامة الإنسان..دفاع عن الحياة الكريمة..دفاع عن الحق ضد الباطل، وعن العدل ضد الظلم.
فمن وقف مع الطفل الفلسطيني في انتفاضته فقد وقف مع الحق والعدل والحياة الكريمة، ومن أدار له ظهره فقد وقف مع الباطل والظلم والحياة الذليلة.
لقد أضحت الانتفاضة الفلسطينية مقياسا واختبارا لبني الإنسان في مدى وفائهم للقيم النبيلة والأخلاق الفاضلة…فالمفكر والمثقف-خاصة في بلادنا العربية- الذي تستهويه قيم الحداثة الغربية من ديمقراطية وحقوق للإنسان وحرية في الحياة… ولم يقف في صف المقاومة الفلسطينية، مساندا لها، لا يمكن أن يكون صادقا في تعلقه بتلكم القيم والأخلاق.
فالانتفاضة أضحت -بحق- محكا حقيقيا للمنبهرين بالغرب وبالنموذج الأمريكي ليس في عالمنا العربي فحسب، بل في الدنيا كلها…إنها اختبار للذين يقولون بلسان حالهم أحيانا وبأقوالهم أحيانا أخرى يا ليت لنا مثل ما أوتي الغرب من كذا وكذا..إنه لذو حظ عظيم!
خيانة الفكر الحداثي
إن بعض رجالات الفكر في منطقتنا العربية أمضوا عمرهم في الترويج للنموذج الغربي على مستوى التفكير والسلوك، وعندما تعلق الأمر بمحنة شعب تمارس عليه كل الأشكال التي تقذف به إلى هاوية الإبادة والإلغاء، هؤلاء الذين أصابنا الصداع من جراء حديثهم عن الظلم الذي تتعرض له المرأة في الإسلام، هؤلاء الذين يحدثوننا-بدون استحياء- عن بشاعة الحدود في الإسلام، وعن نصوص قرآنية وحديثية وتراثية تولد-في رأيهم الحداثي- إرهابا وإرهابيين!
أين هم هؤلاء ما لهم لا ينطقون..ألا يسمعون..ألا يبصرون. أم لهم آذان لا يسمعون بها ما تنقله وكالات الأنباء المختلفة من أخبار، أم لهم قلوب لا يفقهون بها ما يجري في أرض فلسطين. لماذا لا يستغلون المنابر الإعلامية التي وفرتها لهم جهات عديدة في الغرب من أجل استعراض عضلاتهم وقول الحق والحقيقة.
أم أن الإرهاب الصهيوني في اعتقادهم مجاز، والمجاز وفقا لرؤيتهم النقدية والأدبية تسري عليه أحكام لا تسري على الحقيقة.
أم أن رواية وليمة البطش الصهيوني كرواية حيدر حيدر لا يمكن فهمها دون التعمق في دراسة المذاهب الغربية الحديثة والمعاصرة في الأدب والنقد!
ما لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين لا يفقهون ما يجري في أرض الرسالات، وهم من هم..هم الذين تخصصوا في علوم دقيقة حتى تعمقوا فيها، وتعمقوا في معارف لا قبل لنا نحن “الأصوليين” بها حتى تخصصوا فيها!!أم أن مشاهد الإبادة قد تشابهت عليهم كما تشابه البقر على بني إسرائيل.
لقد فضحتكم الانتفاضة الفلسطينية وأبانت عن كذبكم وعدم صدقكم في تبنيكم لقيم العدل والعدالة، والكرم والكرامة…أما آن لهؤلاء الساكتين على مجازر القرن الجديد أن تخشع قلوبهم لما يتعرض لهالشعب الفلسطيني من إبادة، وأن يقولوا للغرب المعاصر وأمه أمريكا ولعملائهم: إنكم منافقون..إنكم تركبون موجة قيم حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية عندما يتعلق الأمر بمصالحكم الدنيوية الخسيسة، وتجعلونها وراء ظهوركم عندما يكون الدفاع عن هذه القيم لا يخدم مصالحكم القارونية والشارونية.
قولوا للغرب ولعملاء الغرب قد أنبأتنا الانتفاضة بأغراضكم المبيتة، فلو كان قصدكم من دفاعكم عن حقوق الإنسان الحفاظ على كرامة الإنسان من حيث هو إنسان لما ترددتم لحظة واحدة في إعلان البراء من هذه الحضارة الغربية التي وقفت مكتوفة الأيدي عما يجري على أرض الأنبياء.
نداء للإنسانية
إن الإنسانية مدعوة اليوم للوقوف-أكثر من أي وقت آخر- إلى جانب أبطال الانتفاضة الفلسطينية، لأن هذه الانتفاضة أضحت تعني الإنسانية…وعلى المتخصصين في اللغات واللسانيات أن يفكروا مليا في كيفية جعل مصطلح الانتفاضة الفلسطينية مرادفا لمصطلح الإنسانية. فيكون من وقف مع الانتفاضة ودعمها بكل أشكال الدعم قد احترم إنسانيته وإنسانية الإنسان، ومن لم يبالي بها وأدار لها ظهره فقد فقد إنسانيته ولم يحترم إنسانية الإنسان.
الانتفاضية الفلسطينية قدمت دليلا قاطعا على إفلاس النموذج الغربي، وعلى إمكانية مقاومته..بعد أن فشلت جملة من الاتجاهات في صد تيار الأمركة وتيار الصهينة وتيار الغربنة.
إن الانتفاضة وهي تقاوم الكيان الصهيوني تقاوم أيضا أمريكا والغرب، لأن هذا الكيان تعبير عن ثابت العنف والهيمنة الذي صاحب أمريكا والغرب منذ ولادتهما؛ وليترسخ في حس الإنسان العربي الشهم أن من يقاوم هذا الكيان إنما يقاوم أمريكا على وجه الخصوص، ولا نقبل دعوى الفصل بينهما كما تريد ذلك أمريكا وكما تريده أيضا بعض الأنظمة العربية.
لذلك نحسب أن من التناقض الصارخ أن نجد بعض القوم يلعنون أمريكا ليل نهار، في شعرهم ونثرهم وقصصهم.. ولكن تلقاهم لا يبذلون أي جهد يذكر في سبيل دعم المقاومة الفلسطينية..ومن المفارقات-التي ما بعدها مفارقة- أيضا أن يكون بيننا قوم يكرهون الكيان الصهيوني كراهية مطلقة، ولكن في أحاديثهم ومقالاتهم يروجون للوجه “الإنساني” من الحضارة الأمريكية!
فكما اقترحنا-أعلاه- أن تكون الانتفاضة مرادفة للإنسانية، فكذلك نقترح-هنا- أن تكون أمريكا مرادفة للكيان الصهيوني، هذا الكيان اللقيط الجاثم على قلوبنا وقلوب العالمين.
كفى فخرا بالانتفاضة الفلسطينية أن طلائعها الأحرار يستصحبون في انتفاضتهم ومقاومتهم لدولة شارون ودولة قارون قاموسا من المصطلحات والمفاهيم لم تلوثها تلكم الترسانة من المصطلحات والمفاهيم الغربية التي فرغت من محتوياتها وأضحت دالة على الازدواجية في المعايير، والانتقاء أثناء الممارسة، كمصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير مصير الدول والشعوب…بل إن الانتفاضةأقنعت الناس عامة والمسلمين على وجه الخصوص بإمكانية فرض مصطلحات ومفاهيم تنتمي لتربتنا الثقافية والحضارية، وإن كانت موازين القوى المادية-كما تبدو- غير متكافئة؛ فلقد فرض أطفال فلسطين على القاموس الغربي إدخال مصطلح انتفاضة وجعلوه متداولا في نشرات الأخبار وقصاصات الأنباء العالمية..وهذا درس لبعض مفكري أمتنا الإسلامية الذين تبنوا مصطلحات ومفاهيم ما كان لنا حاجة إليها، محاولين إقناعنا بأن تلك مصطلحات يمكن تفريغها من مضامينها الأصلية، الغربية طبعا..ومحاولة ملئها بمضامين جديدة، إسلامية طبعا!!لذلك نجد أن قاموس هؤلاء يحيلنا بقوة ومرارة على التجربة الغربية من خلال مصطلحات كثيرة كالحداثة، الأصولية، الديمقراطية، الإسلام السياسي،…وهلم جرا.
نذكر دعاة الانبهار بالحضارة الغربية أن موازين القوى المادية المختلة ليست مبررا لتبني مثل هذه المفاهيم التي يصعب-إن لم نقل يستحيل- فصلها عن فلسفتها الوضعية، تلك الفلسفة البعيدة كل البعد عن وحي وتعاليم السماء.
من ناحية أخرى، يحاول بعض مفكري الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد (ما وصل إليه الغرب من أفكار) في عالمنا العربي أن يقنعونا بأن دور المثقف العربي في الوقت الراهن ينبغي أن يتمثل في الوصول إلى أن تتبنى الأوساط الفكرية والثقافية على الصعيد العالمي مفاهيم ومصطلحات جديدة يبدعها المفكر العربي..ولكن كل الذي فعله هؤلاء أنهم رددوا ما يقوله المفكر الغربي وكانوا صدى له، ولم يتميزوا عنه بشئ جديد اللهم إلا إذا اعتبرنا أن ترجمة المصطلحات والمفاهيم من لغة إلى لغة أخرى، وبشكل حرفي واستنباتها في بيئة ثقافية أخرى إبداعا علينا أن نصفق له ونهلل!!
الانتفاضة درس لكل الأحرار
أما أطفال فلسطين الذين لم يطلعوا على الفكر الغربي، لا من بعيد ولا من قريب، فإن العالم قد تبنى مصطلحهم المتميز: الانتفاضة. وأصبح الإنسان الغربي يردد هذا المصطلح وإن كانت لغته لا تتضمن حرف الضاد..فلغتنا العربية -للتذكير فقط-هي لغة الضاد.
فالانتفاضة الفلسطينية كلها خير..دنيا وآخرة..فأطفال الكيان الصهيوني الذين يسقطون من جراء عمليات المقاومة الفلسطينية..تسدي لهم الانتفاضة الفلسطينية خيرا كبيرا..فخير لهؤلاء الأطفال أن يلتحقوا بربهم قبل سن التكليف وهم على الفطرة، من أن يكبروا ويجري عليهم قلم التكليف ويكونوا عونا لهذا الكيان الظالم.
إن هؤلاء الأطفال-أطفال الكيان الصهيوني- سيشكرون الله تعالى أن سخر أطفال المقاومة الفلسطينية فكانوا منقذين لهم من العيش في دولة ظالمة، وسببا في نجاتهم من النار يوم الدين يقوم الناس لرب العالمين إن شاء الله تعالى.
وهذا المعطى مطلوب منا أن نوصله إلى أطفال الكيان الصهيوني، وينبغي مخاطبتهم بهذه اللغة.
إن انتفاضة شعبنا الفلسطيني البطل أعطت درسا لشعوب أمريكا الأصلية التي نسيت أنأرض أمريكا هي أرضهم، ولم تعمل-هذه الشعوب- على انتزاع حقها من المستعمر الأوروبي، البريطاني على وجه الخصوص.
لقد ظن الكيان الصهيوني أن الشعب الفلسطيني سيتعايش بسرعة معهم كما تعايش من بقي من الهنود الحمر والأفارقة مع المستعمر البريطاني ..لكن هيهات ثم هيهات.
على العالم المعاصر أن يعي أن المشكلة الرئيسية في أرض الرسالات لا يجب بأي حال من الأحوال حصرها في بعض العمليات التي تقوم بها الانتفاضة هنا وهناك، بل إن المشكلة الأساسية التي لا ينبغي نسيانها أو تناسيها هي مشكلة الاحتلال..فإذا قبل شعب من شعوب العالم أن تحتل أرضه على مرأى من العالم ومسمع، ولم تكن له أدنى حبة من كرامة ونخوة، فإن شعبنا الفلسطيني ومعه الأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم..لا يقبلون ولن يقبلوا بهذا الاحتلال الهمجي أبدا.
واعلموا يا فراعنة ونماردة عالمنا المعاصر أنه إذا استسلم الشعب الفلسطيني للاحتلال ورضي به كأمر واقع، حينئذ فقط يمكن لفوكوياما وبوشوياما وشاروياما وغربوياما أن يعلنوا نهاية التاريخ وانتصار النموذج الليبيرالي الامبريالي..
ولكن ما دام الطفل الفلسطيني لم يستسلم ولن يستسلم أبدا، ومصمم على المقاومة ودحر الاحتلال، فإننا لن نشهد نهاية للتاريخ بل بداية تاريخ جديد تنعم فيه الإنسانية في ظل قيم الحرية على وجهها الصحيح، وقيم الكرامة كما تليق ببني الإنسان.
فإذا كان الكيان الصهيوني على أرض فلسطين الصامدة امتدادا للمشروع الغربي..فإن أي هزيمة تلحق بهذا الكيان تعتبر ضربة تصيب النموذج الغربي وما ينادي به من شعارات جوفاء..
على مفكرينا- خاصة الحداثيين منهم- عندما يتحدثون عن الغرب وانتصار الغرب، أن يعلنوها بدون خجل ولا وجل أن هذا النموذج قد كشفت انتفاضتنا الفلسطينية نفاقه وتناقضاته الصارخة، وعرته من كل ما يبهر به العالم من زينة ومظاهر زائلة.
إن الغرب استعمل الكيان الصهيوني ووظفه من أجل أن يحقق به أغراضه الاستعمارية وذلك عن طريق إبادة الشعب الفلسطيني، وحسب هذا الغرب أنه سينجح كما نجح في أمريكا..لكنه انهزم على كافة المستويات، إنه انهزام ما بعده انهزام.
ولتعلم الإنسانية جمعاء، أن روح المقاومة في فلسطين لن تكتفي ولن تقنع فقط بتحرير سكانها من قبضة الصهاينة، بل إن مشروعها بالأساس هو مشروع تحرير للبشرية جمعاء.. وإنها بداية من أجل إخراج العالم من عبادة النموذج الغربي الشركي إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق دنيا السوق الاستهلاكية إلى سعة دنيا الإيمان..وآخرة الجزاء على السواء.
إن مشروع الانتفاضة يتجاوز الأرض ليعانق السماء، وننصح شعوب العالم-صادقين- أن لا تفهم الانتفاضة على أساس أن هناك شعبا غايته أن يحكم البلاد والعباد! إن الانتفاضة تريد أن تعبد الطريق للشرفاء من هذا العالم كي يعيشوا في سلام وأمن حقيقين..إن رواد المقاومة خطوة فقط على الطريق الطويل.. وليسوا نهاية الطريق.
وفي الأخير، أقول للذين تستهويهم دراسة بطولات الشعب الفلسطيني، وتحليل ما يجري على أرض فلسطين من أحداث..وأنصحهم ألا يقتصروا في تحليلهم على النظر إلى موازين القوى، وما يتوفر عليه الكيان الصهيوني من أحدث الأسلحة الأمريكية فحسب..بل نحسب أن هذه التحاليل والدراسات ستظل عاجزة عن تفسير وفهم الأحداث على حقيقتها ..
فلا يمكن فهم فعل الانتفاضة إلا إذا وضعنا أمام قلوبنا وأعيننا الآية الكريمة ( فلم تقتلوهم. ولكن الله قتلهم. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)(سورة الأنفال: الآية 17).
ولا يمكن فهم ارتباك الجيش الصهيوني الذي يتوجس من أطفال الحجارة خيفة، إلا إذا أعدنا بوعي قراءة قوله تعالى (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون)(سورة يس: الآية 8).
ذ. جواد الشقوري