خطرة المسجد


لم يكن اعتيادي المسجد لأداء فريضة الصلاة يوحي لي بشيء آخر غير زيارة بيت الله والوقوف بين يديه عز وجل طمعا في مغفرته وثوابه. ولم يكن شعور الرغبة هذا حينئذ يبرحني ولاسيما أننا في زمان اصطلحت عليه العلل والنكبات، زمان معتم بالفتن وملبس بالشبهات،مشحون بالمكاره  وتتغشاه المفاسد، وتتجاذبه الشهوات حيث يمسي الحليم حيران.

في هذا الوضع -الذهاب إلى المسجد كل صلاة- الرتيب قالبا،  المتجدد قلبا الذي يحول العبادة إلى عادة، يبقى الإحساس بفضاء المكان وجها من وجوه الحياة الطبيعية التي تسكن فيها النفس سكونا موازيا لسكونها إلى الزوج، بل يمتلك المسجد سكينة آمن لمن فر من ظلمة الغسق طلبا لأضواء الشفق.

لكن شعور الرغبة هذا ما لبث أن تحول إلى إحساس بالرهبة عندما لفني اعتقاد بتدبير الله عز وجل العجيب شأن المسجد وفق أقدار ضيوفه الإيمانية، وأحوال تقواهم الآنية . لم يمتلكني هذا الخوف هكذا، وإنما استقر بداخلي لما كان من أمري، حين قلبت النظر واللب في نفسي وأحوالها وإقبالها على الله  وإدبارها، فهالني أني كنت كلما زاد فضل الله علي بالإيمان واشتد حرصي على فعل الطاعات  بما يجعل أصداء نفسي تتردد به، كلما حل مقامي بالمسجد المحل الأسنى، فأحظى -كلا- بشرف الوقوف أمام ربي جل وعلا في الصف الأول، وأستحضر -مضمونا- جلاله وعظمته سبحانه. وراعني أني أجد طريقي إلى المقدمة حيث تنفسح لي السبل دون عسر حتى أستقر هناك، وكأني بمن يحفظ لي هذا الموضع، ويبطئ خطى آخرين نحوه، أو تتثاقل همم آخرين إليه بتدبير مدبر خبير عليم بمكنون صدور عباده. فلبسني بذلك شعور جلال الله رب البيت، وحفاوته  تعالى بمن تطهر بيقين الإيمان وإنزاله مقام التشريف، علما منا أنه -أي الصف الأول- كان محط سباق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم فيه من جزيل الأجر وفضل الثواب.

بيد أن هذا الشعور لم يتأكد إلا لما حلت بالنفس أعراض الفتور، وتنكست همتها بالوناء ووسوسة الغرور، فشط السير إلى المقام المعلوم، وانسدت سبل بلوغه بقدرة القيوم. فعاودني الإحساس بالخيبة، وتملكني الشعور بالذنب على التقصير فيما يوجب القرب من الرب جل وعلا، فأيقنت حينها أن للمسجد أسرارا خفية يدبر أمرها ربها بما يليق بمكانة عمارها. فما لبثت أن استخفني النصح  بنزاع، وقاد الأنامل إلى اليراع، وإن نداء الحق والواجب يلبى وأمره يطاع، فكان ما كان من أمر هذه الخطرة  التي أبغي بها تنبيه نفسي وإخواني المؤمنين، حتى تعود لبيوت الله تعالى رفعتها وقدسيتها بجلاء الصدأ من قلوب روادها، وانبلاج الخير في نفوس زوارها..  آمين.

د. عبد الحفيظ الهاشمي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>