إن تطور الفكر السياسي يفيد أن إشكالية السياسة تمحورت دائما حول السلطة باعتبارها محور اهتمام هذا الفكر، ولا يخفى على أحد أن الحضارة اليونانية هي التي أسست للفكر السياسي الوضعي وأعطت الانطلاقة لمجمل من الابتكارات في مجال المؤسسات.
ومهما يكن من أمر، فإن السياسة هي كيفية إدارة شؤون الناس و تنظيم أمورهم على وجه من الوجوه. إلا أن المفهوم الإسلامي للسياسة يؤكد على إدارة تلك الشؤون على أحسن وجه، لأن الإدارة مع استعمال الشدّة والطغيان ليست سياسة إسلامية. فقد دأب المختصون على تعريف السياسة بعلم حكم الدول أو علم حكم المجتمعات الانسانية، والقاسم المشترك لمثل هذه التعريفات أنها تظل تعريفات وليدة ظرفها ولا تتمتع بالإطلاقية، أما المفهوم الإسلامي للسياسة فهو أكثر سعة ويشمل حتى إدارة الفرد لنفسه ولعائلته ووسطه وبيئته.
والسياسة في المفهوم الإسلامي ليست هدفاً بحد ذاتها، لأنها لا تعني الاستحواذ على آليات وأدوات القهر التي توفرها السلطة، وإنما تستهدف بالأساس توجيه النشاطات الاجتماعية وتنظيم الحياة على أحسن وجه لذلك فمجرد التنظيم وإحكام التنظيم لا يحققان شرط قيام السياسة الاسلامية، مادام هدفها الأسمى هو إقامة الدين بجميع أبعاده. وفي هذا الصدد قال تعالى : {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} وكما هو معروف الأصر والغل هما القيود والمعوقات التي تمنع من تحقيق الانسان إنسانيته. لذلك وضعت المنظومة الاسلامية نصب أعينها إزالة الفقر والقهر والاستغلال وتحرير الانسان لتمكينه من الوصول إلى عبادة الله، لأن البداية تأتي من تحرير الإنسان وتمكينه من الادراك أنه حرّ قادر على الإختيار وغير مجبر على القيام بأي عمل دون قناعة. وبذلك تكون السياسة الاسلامية تهدف إلى التوصل إلى سبل تحقيق الرفاه الاجتماعي وحماية الانسان من مختلف أشكال التعسف.
ولذلك فلا يمكن لكل من هبّ ودبّ أن يكون سياسياً بالمفهوم الإسلامي، لأنها صفة تستوجب شروطاً ومواصفات، أي امتلاك الأهلية لذلك. ولذلك فإن السياسة والممارسة السياسية لا يمكن أن يؤديها إلا نوع خاص من البشر من ذوي الأهلية الأخلاقية العالية.
وهذا يجرنا إلى الحديث عن الشرعية السياسية التي يحددها كل نظام حسب قواعد محددة، فإما أن تكون مرتكزة على الانتماء إلى أسرة تتوارث الحكم وإما أن تكون مستندة على انتخاب الأغلبية للحاكم. أما بالنسبة للمنظور الاسلامي فإن الشرعية ليست اكتسابية بل إنها تكمن في جملة مقومات تتم بالاختيار المبني على الإقناع والدوافع الذاتية الناشئة عن الالتزام الحرّ بالشريعة الإسلامية. فالنظام السياسي الإسلامي يفترض عملية ترشح اختياري لبعض الناس ذوي المواصفات الأخلاقية والعقلية تتصالح الجماعة برضى تام على تسليمهم القيادة، مادامت العلاقات، كل العلاقات محكومة بقواعد شرعية سواء في السلم أو الحرب أو الرخاء أو الفقر أو في حا لة وجود معارضة وعدمها. فليس هناك أي تفصيل من تفاصيل الحياة الإنسانية إلاّ وقدّمت له الشريعة الإسلامية حلاّ لا يمكن أن يرفضه أي إنسان مؤمن، إلاّ إذا كان قد جهل أبعاده.
ففي المنظور الإسلامي جميع أبناء البشر محترمون مهما تعددت آراؤهم أو أديانهم أو ألوانهم، وجميعهم محترمة حقوقهم، مادامت السلطة ليست أداة قمع بقدر ما هي أداة لتنظيم وتيسير الحياة، لمنحها إنسانيتها الفطرية.
ادريس ولد القابلة