يعد هذا المرتكز من مكملات المرتكز السابق وقد أفرده الدكتور الصاوي بالحديث لأهمية ولضرورة تحقيق القول فيه. وخلاصته كما جاء في البيان الختامي للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: (ما هو مقرر فقها من أن ما حرم سدا للذريعة أبيح للحاجة، أما ما حرم لذاته فإنه لا تحله إلا الضرورات، ولما كان المحرم لذاته هو أكل الربا فإنه هو الذي لا تحله إلا الضرورات، أما ما وراء ذلك من إيكال الربا أو كتابته أو الإشهاد عليه فهو محرم سدا للذريعة، لذلك فإنه تحله الحاجات) وقد وقف الدكتور وقفتين على هذا المرتكز:
الوقفة الأولى :
لقد حفظ لنا تراثنا الفقهي فيما حفظ أن ما حرم سدا للذريعة هو ربا الفضل وليس ربا النسيئة، وقد استدل على ذلك بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: >لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكم الرما< والرما هو الربا (مسند أحمد، راجع الفتح الرباني: 15/74).
قال ابن القيم رحمه الله: (الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدا، وتحريم الثاني وسيلة، فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دَيْنه ويزيده في المال، وكلما أخر زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مُؤَلفة… فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله) إلى أن قال رحمه الله : (وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع) (أعلام الموقعين: 2/154-155) وذكر رحمه الله في موضع آخر أنه يباح من ربا الفضل ما تدعو الحاجة إليه كالعرايا، وهي بيع رطب بالتمر لعدم القدرة على تحقيق التماثل بينهما، لأن الرطب والتمر من جنس واحد وأحدهم أزيد من الآخر قطعا بلينته، وهي زيادة لا يمكن فصلها وتمييزها، والأصل في باب الربا أن الشك في التماثل كالعلم بالتفاضل وقد كان مقتضى القياس تحريم هذه المعاملة لو لم تأت بها سنة، ولكن السنة قد جاءت بالإباحة فقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا) ولهذا فإن هذا النوع من الربا قد تبيحه الحاجات على شرائطها المقررة عند أهل العلم في مثل هذا المقام.
أما ربا النسيئة فالكلمة متفقة على أن تحريمه تحريم ذاتي، وأنه هو الذي جاء فيه الوعيد القرآني ابتداء، وعليه أعلنت الحرب من الله ورسوله، وعندما اجتمع مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة عام 1385هـ جاء في مقرراته أن (الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته)، وإنما فرق المؤتمر بين الإقراض والاقتراض لأن الإقراض لا تتصور فيه الضرورة ابتداء، إذ لا يدفع إليه إلا شَرَهٌ وجشع ومحاداة لله ورسوله، أما الاقتراض فهو الذي تتصور في مثله الضرورة، كأن يكون الشخص على حافة هلاك. ومن هنا يأتي الترخص، لكن لم يقل أحد -فيما نعلم – أن تحريم الاقتراض الربوي تحر يم ذرائع وأنه تحله الحاجات.
هذا هو ما قرره مجمع البحوث الإسلامية قبل ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، وقد استشهد به أستاذنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي في رده على فضيلة مفتي مصر السابق في إباحته لفوائد البنوك، وكتب في ذلك كتابا جليلا عنوانه: (فوائد البنوك هي الربا الحرام) وقد عنون فضيلته في كتابه هذا فقال: (لا ينسخ الإجماع إلا إجماع مثله) ثم ذكر تحته إجماع المجامع الفقهية على حرمة فوائد البنوك وذكر آراء أهل العلم في مدى قابلية الإجماع للنسخ، ثم أردف فقال حفظه الله وأطال بقاءه (وإذا طبقنا هذا على حالتنا هذه واعتبرنا الإجماع هنا من النوع الاجتهادي ولو تجاوزا فليس من حق فئة قليلة من الناس – أكثرهم غير متخصصين في الفقه ولم يخوضوا بحاره – أن تخالف هذا الإجماع برأي أحادي جديد لأن الأضعف لا يلغي الأقوى، لابد أن تنعقد المجامع مرة أخرى للنظر في هذا الأمر إن كان قد جد فيه جديد) (فوائد البنوك هي الربا الحرام: ص: 70).
فهل لنا أن نستأذن شيخنا الجليل في استخدام نفس العبارة فنقول: إن الأضعف لا يلغي الأقوى، وإن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي حضره ممثلون ومندوبون عن خمس وثلاثين دولة قد قرر بالإجماع أن الاقتراض بالربا محرم، وأنه لا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة وأنه ليس من حق فئة قليلة من الناس- أكثرهم غير متخصصين في الفقه ولم يخوضوا بحاره – أن تخالف هذا الإجماع، فتقرر أن تحريم الاقتراض بالربا تحريم ذرائع، وأنه تحله الحاجات، لأن الأضعف لا يلغي الأقوى؟ !
إن من حق فضيلته – وهو الفقيه المجدد – أن يتغير اجتهاده ولكن هل من حقنا أن نقف مع ما قرره الجمهور من قبل من أن الاقتراض بالربا لا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة؟ وهل لنا أن نطالب مع فضيلته أن تنعقد المجامع مرة أخرى للنظر في هذا الأمر إن كان قد جد فيه جديد؟ !
والخلاصة أن ما قرره المؤتمران من أن الإقراض الربوي هو الذي يعد وحده من المحرمات الذاتية فلا تحله إلا الضرورات، أما الاقتراض الربوي فتحريمه سدا للذرائع فتحله الحاجات، مما يحتاج إلى مراجعة متأنية مع استصحاب جميع التداعيات التي أشير إليها سلفا عند تطبيق هذه القاعدة في واقعنا المعاصر.
الوقفة الثانية :
أن النصوص الواردة في هذا المقام تسوي في اللعن بين آكل الربا وموكله، فقد >لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه< (رواه مسلم). وعند النسائي من طريق آخر عن ابن مسعود قال: >آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم<. وإنما خص الأكل بالذكر لأن الذين نزلت فيهم آيات التحريم كانت طعمتهم من الربا، وإلا فالوعيد كما في الحديث ينال هؤلاء وهؤلاء، ويعسر مع هذه النصوص القول بأن تحريم إيكال الربا تحريم ذرائع يباح لمجرد الحاجات.
ذ. عمر داود