التربية الروحية ضرورة لا غنى عنها في البناء.. بل لا يتصور أن يقوم بدونها عمل دعوي على الإطلاق، إذا عنينا بالتربية الروحية تعميق الصلة بالله، وترقيق القلب لعبادته سبحانه، وتذكير الإنسان باليوم الآخر، وربط مشاعره بالموقف الذي يلقى الله فيه… وقد كان هذا جزءا بارزا وأساسيا من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه رضوان الله عليهم في مكة خاصة، حين فرض عليهم قيام الليل لتعميق هذه الصلة وتثبيتها وترسيخها.. ولكن هذا كله كان إعدادا لأمر آخر، ولم يكن هو في ذاته الغاية !
والمتأمل في سورة المزمل، يتبين أنه مع الأمر بقيام الليل كانت هناك إشارة واضحة إلى تكاليف قادمة، جعل قيام الليل توطئة لها، وإعدادا للقيام بها : {يأيها المزمل ثم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}(المزمل: 1-5).
كما يتبين المتأمل حكمة الله جل وعلا في اختيار قيام الليل ليكون أداة للتهيئة المطلوبة : {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا}(المزمل: 6)، أي أعمق أثرا في تهيئة النفوس لاحتمال التكاليف.
وخلاصة الأمر أنه لابد من تعميق الصلة بالله سبحانه وتعالى ليقوم الإنسان بحمل التكاليف التي يفرضها هذا الدين على الوجه الأكمل، وأخصها الجهاد، والصبر على الابتلاء.. أما حين تكون التربية الروحية غاية في ذاتها، أو حين تكون هي نهاية الشوط في عملية التربية فماذا يكون؟ ! يكون – والتشبيه مع فارق قليل- كالجندي الذي تدربه على فنون القتال، وليس في نيتك أن ترسله إلى المعركة قط! أو كالأساس ا لذي تدكه دكا متينا وليس في نيتك أن تقيم عليه أي بناء !
إن هذا الدين شأنه عظيم.. إنه المنهج الرباني لإصلاح الحياة كلها، وإنشاء الإنسان الصالح، الذي يقوم بالخلافة الراشدة في الأرض.. إنه ليس مجرد سبحات روحية وإشراقات، مهما يكن من عمق هذه السبحات، ووضاءة تلك الإشراقات..إنه جهد وجهاد، وصراع حاد مع الباطل، وإيجابية بناءة تهدم الباطل وتشيد الحق.. والتربية الروحية زاد لهذا كله، وليست هي غاية الغايات.
إن الإنسان في حلبة الصراع يجهد ويتعب، ويحتاج إلى سند يقويه، يمنعه من السقوط، ويمنع عنه الوهن الذي يعتريه، وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تقيه من الوهن، وتقويه على الصمود، بما تمده من طاقة، وتشع في كيانه من نور.
والإنسان في حلبة الصراع قد يستوحش، حين يتكاثر عليه الأعداء، ويجد نفسه وحده، أو يجد من حوله مستضعفين مثله لا يملكون نصره، وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تؤنسه بذكر الله فلا يستوحش، وتذكره بالثمرة الجنية في اليوم الآخر فَيَجِدُّ في السعي.
والإنسان في حلبة الصراع قد يفتقد المتاع الحسي، والأهل والأصحاب، والفراش الوثير، والطعام الوفير، فتحن نفسه لذلك كله، أو لشيء منه، فيثاقل إلى الأرض، وهنا تبرز الطاقة الروحية توازن في حسه ثقلة الأرض، وتعوضه عن حرمانه بمتاع أعلى: معية الله، ورضوان الله، والجنة.
إنها الزاد ا لذي يحتاج إليه المسافر ليقطع الرحلة في أمان.. فأما إن كان قاعدا لا يتحرك فما قيمة الزاد !
هل تغير التربية الروحية – و حدها - من واقع الأمة الهابط إلى الحضيض؟
حقا إنها تنقذ أفرادا من الضياع القاتل، وتبني لهم سياجا يحميهم من المهلكات، ولكنها لا تنقذ الأمة من الضياع لأنها لا تدفع بجنود إلى حلبة الصراع، ولا تشارك في التدافع الذي قال الله إنه هو الأداة الربانية لحفظ الأرض من الفساد: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة: 251).
الشحن العاطفي مطلوب في الدعوة. مطلوب أن يتحمس الناس لما يؤمنون به، ولايكونوا كالخشب المسندة، لا تتحرك ولا تحدث حركة، فالدعوة لا تنتشر بأمثال هؤلاء ولو كانوا هم أنفسهم مستجيبين وملتزمين.. ولكن الحماسة وحدها لا تؤدي إلى شيء، و قد تضر أكثر مما تنفع ! فالحماسة كثيرا ما تكون على حساب الوعي، وعلى حساب العلم الصحيح، وعلى حساب الخبرة، وهنا تفقد كثيرا من مزاياها، وتنشأ عنها أضرار كثيرة، خاصة إذا انقلبت إلى عصبية لشخص أو لجماعة أو لحزب أو لفكرة أو لمذهب، فإنها عندئذ تغلق على صاحبها منافذ المعرفة النافعة، وتبث فيه العناد واللدد في الخصومة، وتدفعه إلى المراء المذموم.
وكثير مما يجري في الساحة اليوم من تفرق وتشرذم وتخاصم وتنابذ منشؤه حماسة زائدة عن الحد، لشيء يعتقد صاحبه أنه الحق كل الحق، وأن ما عداه باطل كامل البطلان
ذ محمد قطب