يسهل درك مقاصد مفهوم المركزية الغربية، بالإحالة على هذا المؤتنف المنهاجي الذي تلوح أماراته مع ثنائية المركز وهو الغرب، والطرف أو الهامش وهو الشرق، وليس نافلة التذكير بأن الشرق لا يحدد البتة جغرافيا، لأنه لا يوجد خارج دائرة الغرب غير الشرق، ولو اقتفينا أثر المجال المصطلحي الذي يرسم الاستشراق باعتبار دراسة حضارات وثقافات الشرق، لما كنا في حاجة إلى التنبيه على أن دراسة التراث الأندلسي والمغربي لا تتجزأ من دراسة التراث المشرقي، وإن كان الغرب الإسلامي لا يصنف جغرافيا في مجال الشرق، فالعبرة ليست بالبعد الجغرافي، ولكن ببعد الهوية الحضارية والفلسفية. وها هي الجامعة الدولية لكرة القدم تصنف منتخب إسرائيل لكرة القدم في فضاء الغرب، وإن كانت دولة العدو الصهيوني موجودة جغرافيا في الشرق.
ومن البوارق المنهاجية التي تلوح بوضوح في استشراق الخطاب الغربي، تلك الثنائية الفكرية الكونية التي ترسخت دعائمها في القرن السادس عشر، والسابع عشر الميلاديين، والمتمثلة في نظام السيطرة على الطبيعة، ونظام السيطرة على الإنسان. ويمكن أن نكتفي في هذا المقام، بالمنظومة الذرائعية (البراكماتية) عند مكيافيلي، التي تركب طريقة الغاية التي تبرر الوسيلة، في أفق تحقيق العالم الأفضل أيا كانت الوسيلة.
وستسطع منائر مركزية الخطاب الغربي على شاكلة خاصة في جدلية الفيلسوف هيغل، فالجوهر الثابت غير المتحول عنده، هو التاريخ اليوناني، والدعامة الكبرى هو التاريخ الغربي. وأما التاريخ الشرقي فهو أدنى. وبذلك اكتملت في الخطاب الغربي صورة ثنائية المركز والهامش، مع ما تحمله هذه الثنائية في طياتها من تجاذب في الأجهزة المفاهيمية. فإذا كان المركز (الغرب) موطن العقلانية، والتاريخية، والحرية، والوعي، وغير ذلك من الخصوصيات الوجودية الإنسانية، فإن الشرق (الطرف أو الهامش) موطن اللاعقلانية، واللاتاريخية، والاستبداد، واللاوعي.
ويسهل – ولا شك – الاقتناع بأهمية اتخاذ فكرة أحادية التاريخ الغربي، وثنائية المركز والهامش، عمدة نظرية ومنهاجية في إحالة النظر، في تأكيد جورج والكربوش، وجود خيارين لا ثالث لهما: انضمام إلى صف أمريكا، ومن لم ينضم إلى صف أمريكا، فهو في صف الإرهاب، وفي تقسيمه العالم إلى محورين، لا ثالث لهما: فأما المحور الأول، فهو محور الخير، ولا يمثله غير الغرب. وأما المحور الثاني، فهومحور الشر، وتتزعمه دول الشرق الآتية: إيران، والعراق، وكوريا الشمالية.
وتليق تلك العمدة المنهاجية بإحالة الفكر في تصريح رئيس الحكومة الإيطالية سيلفيو بيرلوسكوني: “الحضارة الغربية أسمى من الحضارة الإسلامية. فلا يمكننا أن نضع كل الحضارات في مستوى واحد. إذ يتعين علينا أن نكون واعين بمكانة حضارتنا الغربية السامية، ومن واجبنا العمل لتغريب العالم”. (جريدة ” le Monde ” الباريسية: 25/09/2001، ص: 3).
ويمكن أن نذيل على هذه الأمثلة، بهذه المنظومة السمعية البصرية الأمريكية، التي تعتبر معلما لنسق الخطاب الغربي عموما بعد أحداث 11 شتنبر 2001.
فقد انتقلت تلك المنظومة من قالب:
(AMERICA UNDER ATTACK)
إلى قالب:
(AMERICA NEW WAR )
ثم إلى قالب:
(WAR AGAINST TERROR)
وتكملت ذلك بقالب: “عدالة بدون حدود”، أو بشعار الحروب الصليبية، الذي لم يكن بتة زلة لسان، أو بقالب:(1)
(AMERICAN WAY OF LIFE)
الذي يعتبر مثنى ومكررا لقالب فكري وثقــــــافي دُبِّجَ بــــــه النظام العالــمي الجديد سنة 1991: (AMERICAN STYLE OF LIFE)
إنه من الواجب التذكير بأن الأنفع في دراسة الخطاب الغربي، هو توظيف جملة من الأدوات الإجرائية الكلية، وفي مقدمتها عرض الفروع على الأصول، فالحرب ضد الإرهاب بزعم الغرب، نسق فكري ثابت غير متحول، بالنظر في مكونات جدلية هيغل. ولا مبالغة إذا أكدنا ضرورة صرف الاهتمام إلى فكرة الحرب في بنيتها العميقة، لأن الحرب هي التي تضمن في الخطاب الغربي قيمة ودلالة التاريخ الكوني، تفاديا للسكونية والجمود. ولا مغالاة في أن أحداث 11 شتنبر لا ينظر إليها في مراكز القرار في الغرب، من جهة فداحتها البشرية، ولكن ينظر إليها من جهة ما تمكنه من مكتسبات. فالأجدر كما أكد ذلك هنري كيسنجر هو أن يكون السواد صانعا للبياض، والظلام خالقا للنور. ولعله لا يصعب الاقتناع -على ضوء ذلك- بأن سقوط (توين سانتر) كان في حد ذاته باعثا لمشروع الوصول إلى آبار البترول في بحر قزوين، التي تعتبر صمام أمان الدولة – الأمة في الغرب، بعد احتياطي الخليج العربي.
ونضيف إلى ذلك معالم فكرية وفلسفية ازداد ترسخ قواعدها في الخطاب الغربي بعد 11 شتنبر، فالمركز (الغرب) لا ينظر فقط إلى الهامش (الشرق)، بمقدار استجابة هذا الهامش لضوابط، وشروط، ومقتضيات المركز، ولكن القطبية والأحادية رجحتا كفة النظام والكيان الإنساني الذي لا يمكن تصوره إلا غربيا خالصا. فهي ذي الجغرافية الوجودية الجديدة التي نجعل من مفاتيحها، دعوة الفيلسوف الفرنسي BERNARD HENRY LEVY إلى أن تكون إعادة تشكيل الفضاء الفكري للإسلام، من المهام المنوطة بالغرب.
إننا نلاحظ في العقد الأخير ارتباط الخطاب الغربي بجهاز مصطلحي محدد، ومن أهم معالمه:
أ- ما بعد الكولونيالية ب- دراسات التابع
ت-ا لحداثة ث- البنيوية
ج- ما بعد البنيوية ح- ما بعد الحداثة
خ- لتفكيكية د- النسوية
وتتصل هذه المعالم -ولا شك – بمراجعة نقدية لمكونات الخطاب الغربي. ولكننا نلاحظ بعد أحداث11 شتنبر ميلا في الغرب، إلى تجاوز دائرة التركيز الأحادي على الذات، وترسيخا لقواعد كونية الغرب بامتياز، إن الباحث في الخطاب الغربي يلمس عن كثب انتقالا من المساءلة النقدية الذاتية، إلى الالتزام بالتمركز وعدم التنوع، بعدما بشرت مرحلة “ما بعد الكولونيالية” بعهد التعدد والتنوع، بحجة واهية لخصها بيرنارد لويس B. Lewis، في عدم جواز زعزعة الغرب ذاته بذاته. وقد بين الأستاذ عبد الله حمودي أن الخطاب الأكاديمي الأمريكي، أكمل بعد 11 شتنبر، نمطية الإنسان العربي، لدرجة غياب مساحة معنوية، تفصل “الإنسان العربي المعتدل” عن “الإنسان العربي المتطرف” إذا برر فعل الانتفاضة في فلسطين المحتلة(2).
وقد أوجز عالم الاجتماع الإيراني إحسان نراغي هذا النزوع الجديد بقوله: “علق الإعلان الآتي في بوابة العمارة التي أقمت بها في واشنطن: لا تتركوا ضيوفكم يستعملون المصعد بمفردهم. فالآخر غير موجود إلا بمقدار التوجس خيفة منه(3).
إن خطاب المركزية الغربية بعد 11 شتنبر برهان ساطع على عنوان كوني جديد، و هو دكتاتورية الخطاب الغربي. فالأساس في هذا الخطاب، باعتبار النموذج العالمي، يجليه الشكل الآتي:
1- المرسل الغرب
2- المرسل إليه الغرب
3- الذات كونية خطاب المركز
4- الموضوع كونية خطاب المركز
5- المعيق الهامش/الآخر
6- المساعد قطبية المركز.
إن خطاب المركزية الغربي بعد 11 شتنبر، هو في أصله وفرعه، خطاب اللاتواصل، الذي تقلب فيه الصور الكونية، والذي لا يسمح فيه للهامش أن ينظر إلى ذاته، دون أن يمكنه المركز من رؤية ونوعية معينتين.
بدر المقري
كلية الآداب والعلوم الإنسانية -وجدة
—–
1 -”الحرب الحضارية الثانية تندلع”، المهدي المنجرة، “الصحيفة” ع: 33، 4 أكتوبر 2001م، ص: 15.
2 -”‘حوار مع الأنترولولوجي عبد الله حمودي، “العلم” 11 يناير 2002م، ص: 7.
3-” Jeune Afrique / l’intelligent ” 25/12/2001, p : 28.