المفكر المسلم د. مراد هوفمان سفير ألمانيا السابق بالمغرب : الإســـلام والـبـــرود فــي الــغــــرب


منذ إسلامه، دأب المفكر هوفمان على إثراء المكتبة الإسلامية بكتاباته ومن ضمنها هذه الدراسة التي تقترح صورة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم واستراتيجية الدعوة الإسلامية في الغرب

تتطلب الاستراتيجية الدعوية للمسلمين في الغرب تحليلاً مستنيرًا للثقافة والمعتقدات الغربية المعاصرة، ومن ثم طرح المعالجات التي يقدمها الإسلام بصورة مقنعة بوصفه دواء.. فالإسلام يمكنه أن يقدم ما يحتاجه أمر إنقاذ الغرب.

الجاليــــات الإسلاميـــة

في الغـــــرب

1- الميول والمؤثرات:

بغض النظر عن الجزء الأوروبي من تركيا والعاصمة أسطنبول، يقـدر عـدد المسـلـمـين في أوربا بنحـو ثلاثين مـليوناً، نـصفهم يعيشون في البوسـنة والـهرسك وكسوفو (سنجك وبازار) بينما يعيش النصف الباقي في أوربا الغربية. أما في أمريكا الشمالية فإن عدد المسلمين -وهو ينمو باستمرار- يتراوح بين ستة وثمانية ملايين، بينهم عدد كبير من الأمريكيين السود.

لقد تنامت أعداد المسلمين في أوربا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية إثر هجرة 2.1 مليون تركي إلى ألمانيا ونحو 4 ملايين من المغاربة في فرنسا، و3 مليـون باكسـتاني وبنغـالي. وأغـلب هؤلاء من العمال غير المهرة. ومن الطبيعي أن تختلف وضعـية هـؤلاء وتأثـير وجـودهم عـن أوضـاع وتـأثير الوجـود المسـلم فـي أمـريكا الشمـالية، حيـث يتألـف المجتـمع المسـلم بـدرجة كبيرة من الطلاب والأكاديميين المهاجرين إضافة إلى المواطنين السود الذين اعتنقوا الإسلام في مراحل مختلفة.

وفي أوربا كان الوجود المكثف لمسلمين  ينتمون إلى مجموعات عرقية محددة سهل تمييزها أمراً في غير صالح هذه الجماعات في ظل واقع يتضافر فيه التعصب العرقي مع مشاعر العداء للإسلام التي ترجع جذورها إلى أحداث تاريخية ظلت في ذاكرة المجتمع قرون عددًا.

فالألمان على سبيل المثال، يتذكرون أن الدولة العثمانية ظلت طوال المدة الواقعة بين القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر تمثل الخطر الأكبر الذي يتهدد النصارى في وسط أوربا.

ومن ذلك الوقت اعتبر الإسلام ديناً تركياً، واعتبر القرآن توراة الأتراك وإنجيلهم. وتنعكس هذه الحقيقة سلباً على مجتمعات العمال المهاجرين الذين تستضيفهم كلٌ من النمسا وسويسرا وألمانيا.. أتراهم يحاولون بهجرتهم هذه المسالمة في ظاهرها تحقيق ما عجزت عنه سيوفهم المقوسة الحادة عندما حاصروا فينا ? هكذا يتساءل البعض الآن بقلق.

كما إن ذكريات الاحتلال الاستعماري وما شابه من سوء معاملة لتلك الشعوب يزيد الوضع سوءاً بالنسبة للمغاربة والجزائريين والتونسيين في فرنسا، وبالنسبة لمسلمي شبه القارة الهندية في بريطانيا، بينما تقف قضية فلسطين وأسلوب تناول أجهزة الإعلامالصهيونية لها عقبة كبرى أمام مسلمي أمريكا الشمالية.

2- وتحت هذه الظروف، نجد أن أوضاع الجاليات المسلمة في الغرب تختلف اختلافا كبيراً، وتختلف تبعاً لذلك فرص الدعوة المتاحة لها.

أ/التقوقع (أو التحول إلى مجتمعات مغلقة مثل الغيتو اليهودي):

ينزع كثير من المهاجرين المسلمين، خاصة أولئك الذين لا يعرفـون القـراءة والكـتابة (للغات بلدان المهجر)، إلى تكوين مجموعات عرقية مغلقة تقوم تحت ظروف الصدمة الحضارية التي تعيشها بتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية لأفرادها، وتمنحهم كذلك ما يفقدونه من إحساس بالانتماء للوطن. وفي هذه المرحلة يبدأ التراث الشعبي ويتضمن الدين، في التحول إلى عامل أهم بكثير عند أفراد الجيل الأول من المهاجرين  مقارنة بما كان عليه الحـال في بلدانهم الأصلية.

ولما كان أفراد هذا الجيل قد غادروا بلدانهم في الأساس لأسباب اقتصادية أكثر منها سياسية، فإنهم عادة ما يعتزمون الرجوع إلى بلدانهم بمجرد جمعهم لما يكفيهم من المال.

وبالتالي فإن هذا الجيل يركز كثيراً على المؤسسات والتنظيمات الدينية، بل لم يفكر في القيام بالدعوة داخل الوسط غير المسلم الذي يعيش فيه. وبدلاً عن ذلك  كان أفراد الجيل الأول يحاولون الدفاع عن مظاهر عاداتهم الخاصة في الموسيقى والطعام والأعياد والأزياء  والقيم الاجتماعية، واستمروا في الاهتمام بأوطانهم، خاصة المنتمين منهم إلى بلدان قريبة من أوربا مثل شمال إفريقيا وتركيا.

وقد شهدت أمريكا الشمالية أيضاً تطوراً مماثلاً ولكن بدرجة أقل،  تمثلت مظاهره في بعض المساجد الخاصة بالهنود أو العرب أو السود.

على أن الجاليات المسلمة في أمريكيا الشمالية، إذا استبعدنا التصنيف على أساس ديني، هي أوفر حظاً بكثير من حيث الاندماج في المجتمع والانفتاح عليه. وقد حقق كثير من المنتمين إلى هذه الجاليات، المؤهلين أكاديمياً،  نجاحاً مشهوداً في مجالات تخصصاتهم. وإن البلاد الأصلية لمسلمي أمريكا الشمالية بعيدة جداً، فإن كثيراً منهم، لأسباب  تتعلق بخياراتهم السياسية، لا يعتزمون، أو ليس متاحاً لهم، العودة إلى أوطانهم.

ب- تكوين جزر للاحتماء:

لقد تبين أن الجيل الأول من المسلمين المهاجرين يخفق عادة في تحقيق حلم العودة إلى الوطن، ولعل السبب الغالب هو أن أبناءهم (أي الجيل الثاني من المهاجرين) يرفضون العودة معهم إلى الوطن.

ويشعر أفراد هذا الجيل بالتمييز ضدهم سواء في بلد المهجر أو في موطن آبائهم، إذ أنهم في كثير من الأحيان، لا يتقنون أيّاً من لغتي البلدين بالقدر الذي يمكنهم من المنافسة، لذا فإن الجاليات المسلمة عندما تواجهها مثل هذه الظروف تقرر أن تنشئ لنفسها الُبنى الأساسية الخاصة بها. ومن أمثلة ذلك بناء المراكز الإسلامية، وتشييد جوامع مكتملة بمآذنها بدل مساجد صغيرة في الأفنية الخلفية للأدوار العلوية.

هذا هو الحال في الوقت الحاضر في كل مكان تقريبـاً في أوربا، من فنلندا (التي تعيش فيها جاليات مسلمة إريترية وصومالية) والسويد، إلى هولندا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا. وفي ألمانيا وحدها أدى هذا الاستعداد لإنشاء هذه المؤسسات وتوفير الأموال اللازمـة لـها إلـى ظهـور نـحو 2500 مـركـز إســلامي بحــلول عـام 1998م. ومعظم هذه المراكز تمثل قوميات بعينها وتعتبر أقواها نفوذاً  المؤسسات التركية ملي قورس ( Milli Gorus)    وحركة سليمان ليلار ( VIKZ) والحركة النورسية (ويرجع الفضل في تأسيسها إلى المفتي الكردي الراحل سعيد النورسي).

وتقوم التنظيمات  المذكورة بالدعوة الآن، ولكن ذلك -للأسف- يكاد ينحصر في إطار مجهود دفاعي مقتصر على المجتمع المسلم.

هذه الجزر الإسلامية يجري تكوينها نتيجة لمجهودات أشخاص يفرضون على أنفسهم التزاما قوياً، ولتوفر موارد مالية، حيث تنشأ تبعاً لذلك هذه التجمعات التي تخص قوميات بعينها كالأتراك والبوشناق والألبان والإثيوبيين، فتمنحهم الشعور بأنهم في بلادهم وتعينهم في المحافظة على إسلامهم. إن باعثهم القوي على الدفاع عن تلك التجمعات المنظمة يجعلهم لا يستطيعون بذل مجهود حقيقي للتمييز بين ما هو مجرد عادات ذات صلة بحضاراتهم  وبين ما هو نابع من الشرع الإسلامي. ولذلك نجد أن الانقسامات الطائفية الموجودة في الهند وتركيا تستمر في بريطانيا وألمانيا  إلى الحد الذي يربك بل وينفر مواطني الدول المضيفة من الراغبين في التعرف على الإسلام.

وهذا يفسر عجز ملايين المسلمين المقيمين في أوربا الغربية عن جذب أعداد أكبر من سكان الدول المضيفة لاعتناق الإسلام، إذ لم يقدر مليونان من الأتراك في ألمانيا على اجتذاب  أكثر من ستين ألف ألمانياً لاعتناق الإسلام، وذلك خلال مدة لا تقل عن ثلاثين عاماً.  وللأسف لا ينتظر من هذه الحصيلة إلا أن تستمر سلبية ما استمرت غالبية الأتراك في ألمانيا في التركيز على إعادة أسلمة تركيا التي تستمد سياستها من مبادئ كمال أتاتورك، بدلاً من التركيز على نشر الإسلام في ألمانيا نفسها.

ومرة أخرى نجد أن الصورة في أمريكا الشمالية أكثر إشراقاً. فالأمريكيون السود، باعتبارهم ليسوا من المهاجرين، ليست لديهم بلدان أخرى يركزون مجهوداتهم عليها.. بل حتى المسلمون المهاجرون، خاصة أولئك القادمون من فلسطين وسوريا والعراق ولبنان ومصر ،نجد أنهم متمسكون بحقوقهم ومنظمون في تعاملاتهم رغم الحواجز العرقية، وقادرون من الناحية الفكرية على التأقلم مع المحيط غير المسلم الذي يعيشون فيه.. وتشمل البنيات الخاصة بهم مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا الإسلامية في ليزبيرغ،  والجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية ( ISNA) ومجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية ( CAIR) والخدمة الإعلامية الإسلامية ( I.I.S) في لوس أنجلوس.

وليس ما ذكرنا سوى نزر يسير من المؤسسات والتنظيمات الإسلامية الموجودة  هناك، والتي تلبي حاجة الواقع من حولها وتضطلع، على خير وجه، بمهمة شرح دين الإسلام لمن يهتم بذلك.

ج) التـحـــــــــــدي:

وفي كلتا القارتين (أي أوربا وأمريكا الشمالية) تواجه المسلمين ذات التحديات. إذ يـتعين عـلى الجـيل الثـالث أن يـكوّن مـجتمـعات إسـلامية كامـلة الانـدمـاج بحـيث لا تسيطر عليها عناصر عرقية بعينها.

ويـجـب عـلى هـذه المجتــمـعات المتـكامــلة أن تـقـلل شـيئاً فشيئاً مـن الـتركــيز عــلـى ذواتها، وأن تـزيد مـن اهتـمامـها بالعـالم مـن حــولها حتى تتمكن من نشر الدين الحنيف.

ما هو الهدف ?

1- تـــــوكـيـــــد الــــــــذات :

إن مسلمي أوربا الغربية، كما تقدم معنا، خلافاً لإخوانهم في أمريكا، يسعون فقط إلى أن يلقوا التسامح في البلدان المضيفة، وأن يعاملوا وفق ما تقتضيه مبادئ القانون والعدالة. ويعـد هـذا الطـموح المحـدود أمراً معتـاداً لمثل هؤلاء المهاجرين الذين لا يسهل عليهم الحصول على وضعية المواطنة في البلدان التي اختاروها لإقامتهم، كما هو الحال في ألمانيا مثلاً.. ومادام الواحد منهم يحذر من خطر الإبعاد، فإنه يكون عادة بعيداً عن الثقة بالنفس وتوكيد الذات.

وعليه فإنه ليس من المبالغة القول بأن معلومات الأوربيين اليوم عن الإسلام، على الرغم من وجود ملايين المسلمين بينهم لا تزيد كثيراً عّما كانوا يعرفونه عن الإسلام عندما كانت معرفتهم بالشرق مستمـدة بالدرجة الأولى من آداب الاستشراق وقصص المغامرات. إنه لواقع محزن بيد أنه عين الحقيقة.

2-  التــفـــــــــــــــــــاؤل :

على أن القصور في العمل الدعوي في القارة القديمة لا يعود إلى ضعف أوضاع المهاجرين أو تدني مستوياتهم التعليمية أو انشغالهم بأنفسهم أو بأوطانهم فحسب، بل إن هناك أيضا قدراً كبيراً من التشاؤم الانهزامي.. ففي ظل مشاعر العداء المتأصل للإسلام في أوربا يبدو واقعيًا أن نفترض أن أقصى ما يطمح  إليه المسلم هناك هو أن يقابل بالتسامح، وأسوأ ما يتوقعه هو أن يمارس التمييز المصحوب بالعنف.

3-  الـــتـعــقــــل الـتـكـتـيـــــكـــــــي:

ربما يكون من التعقل التكتيكي ألا يبالغ في الطموحات وألا يستعجل  في تحقيقها. فأوربا، على أية حال، لم تكن يوماً مكاناً للتعددية الدينية، بل إنها عُرفت بعدم التسامح الديني. وكان ذلك مبنياً على حماسها للتبشير بالمسيحية وتحقيق السيادة، بحيث أصبح الظهور المفاجئ لدين جديد (الإسلام) يمثل مشكلة نفسية كبرى على المستوى الجماعي.

وما يزيد الأمور سوءاً هو أن الإسلام، خلافاً لليهودية على سبيل المثال، هو الدين عينه الذي اعتبر أكبر خطر يتهدد المسيحية، وطرحاً مناقضاً لها، لمدة تزيد على ألف سنــة. فهل آن الأوان للترحيب بالهرطقة (أي الإسلام في رأيهم) بل ورعايتها ?

ولا يمكن حتى من الناحية النفسية أن تنسى أوروبا بين عشية وضحاها تراكمات السنين من آثار الدعاية الغربية الخبيثة المعادية للإسلام، والتي استمرت من أيام الحملات الصليبية مروراً بالحقبة الاستعمارية إلى القرن العشرين.

كذلك ليس من العقلانية في شئ أن نفترض أن إقامة المآذن إلى جنب الكاتدرائيات يمكن أن يصادف قبولاً فكرياً في الغرب أو أن تروق لأهله رؤية هذه المآذن.. وحتى إذا تقبل بعض أهل الغرب على غيظ ومضض إقامة المآذن القصيرة هنا وهناك، فإن الاعتراض على الأذان، أي ما يتضمن من شهادة أن محمداً رسول الله، يظل على أشده إلا في حالات نادرة معظمها في مناطق نائية مثل منطقة فينكس (في أريزونا بأمريكا).

وفي ظل هذه القابلية لنشوب الصراع، فإن من الحكمة عدم إثارة المخاوف بفرض التغيير في عقائد راسخة لأناس بُرمجت عقولهم لعدة قرون ضد الإسلام، وذلك من خلال حملات التشويه المنظمة.

ويتبين أن الحذر أمر جوهري خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن الإسلام يبدو حال انتشاره كخطر  يهدد أسلوب الحياة في الغرب فأحكامه تطال كل طرائق الحياة من الذاتوية ( Individualism) المفرطة إلى مذهب المتعة والهوى، وهو أيضاً يمنع التدخين وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير.

إن التخوف من ردة فعل شعبي عام حال تحقيق نجاح سريع ومؤثر هو أمر له بالفعل ما يبرره.. وهذا ما يفسر ظاهرة تصاعد النزعات اليمينية كما هو الحال في ألمانيا وفرنسا وكذلك التنامي المقلق للجماعات النصرانية المتطرفة، الميّالة إلى المصادمة والتي تنطلق من أرضية عداء سافر للإسلام.

وفي حين لا يعتبر العداء للإسلام أمراً غير مقبول من الناحية السياسية. فإن العداء للسامية اليهودية يعد من المحرمات.. أما العداء للسامية العربية فلا.

4-  تحــــــــدي الـتــنـــويــــــــر:

إن التشاؤم بشأن الفرص المتاحة للدعوة الإسلامية يبدو مبرراً على نحو أقوى في ظل القبول الواسع الذي تلاقيه النظرة الحديثة القائلة: بأن الإنجازات الغربية التي تحققت في أعقاب حقبة التنوير هي قيم عالمية ينبغي  اتباعها على مستوى العالم.

وفي هذا إشارة إلى ديمقراطية وستمنستر ( Westminster) ومبادئ النظم الجمهورية والعلمانية والعلمية (أي اتباع منهج العلوم الطبيعية في سائر حقول المعرفة) والصيغ الغربية لحقوق الإنسان التي تتضمن مبدأ تحرير المرأة ومساواتها بالرجل. بل حتى ذوي العقلية المؤيدة للتعددية في حقبة ما بعد النصرانية يفترضون دون استثناء إن الإسلام في الأساس لا يتوافق مع هذه الأجندة الداعية إلى العولمة الثقافية والسياسية.

5- لـيـــس الـتـســـامــــح.. بــل الـتـقـبــــل :

لكن وعلى الرغم من كثرة المعوقات فإنني أدعو بشدة إلى أن يسعى المسلمون في كل مكان لا إلى أن يُقابلوا بالتسامح فحسب، بل إلى أن يلقوا التقبل ويجدوا القبول لدى’ وسط المجتمعات المضيفة.

وقد أدرك (يوهان ولفغانغ فن جوته)منذ مائتي عام أن من يقابل فقط بالتسامح فقد قوبل في واقع الأمر بالإهانة: (يجب أن يكون التسامح موقفاً انتقاليا فحسب يفضي في آخر المطاف إلى القبول. أما مجرد التسامح فهو يرقى إلى أن يكون إهانة.. وبالطبع فإن التعددية الحقيقية، تأمر بالاعتراف المتبادل وأن تتقبل الأطراف المعنية بعضها البعض على أساس المساواة.

ويعد هذا الهدف ذا أهمية جوهرية، لأن القبــول فقـط وليــس مـجـرد التـسامـح هو الأصل في الأسلوب الذي يجب أن ينظر به إلى الأقليات المسلمة ونشاطاتها بوصفها أمراً طبيعياً.. تماماً ولن يصبح الإسلام في مأمن إلا بعد الحصول على هذا الوضع الطبيعي.

6- الـوضـــع  الــســــــــــــــوي:

يمكن مشاهدة ما يعنيه الوضع السوي من منظور التعددية الدينية في دمشق والقاهرة وعمان واسطنبول وكذلك في أمريكا الشمالية.. أما في أوربا وبعد قرون من الحروب الداخلية بين الطوائف المسيحية، فقد غدا أخيراً من المعتاد، على الأقل أن ترى  كنائس الكاثوليك والبروتستانت قبالة بعضها أو جنباً إلى جنب في قلب المدينة.. ولا يمكننا أن نتحدث عن التطبيع إلا إذا قام مسجد في ذات المكان إلى جانب الكنيستين، سواء في أوربا أو في أمريكا الشمالية.

وقد أعطت الكنيسة الكاثوليكية مثالاً جيداً على ما يمكن أن يتضمنه مفهوم التطبيع، فخلال انعقاد المجـلس الثاني للفاتيكان في مطلع الستينـيـات وصـلت روما إلى حد اعتبار الإسلام وسيلة صحيحة موصلة إلى النجاة والخلاص، إلا أن روما رفضت ولا تزال ترفض الإقرار بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الهادي والقائد لمن سلك هذا الطريق القويم.

وأعتقد أنه لن يكون للحوار بين النصرانية والإسلام معنى، ولن يكون حواراً بين ندّيْنِ إلا بعد الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن القرآن هو كلام الله.

ما يحتاجه الغرب

1-  الطلب مقارنة بالعرض:

والذي أراه، من وجهة نظري الخاصة، أن الدعوة الإسلامية سوف تحقق تقدماً في الغرب فقط إذا  تم تقبل الإسلام وصار أمراً مألوفاً.

والتطبيع المنشود لا يمكن أن يتحقق إلا إذا نُظر إلى المسلمين ليس على أساس أنهم مجموعة تطلب شيئاً (التسامح، المواطنة، الحماية القانونية، القبول) فحسب، بل على أساس أنهم أناس لديهم شيء جوهري يمكنهم تقديمه، شيء يفتقده الغرب دون أدنى شك ويحتاج إليه إذا أراد لحضارته البقاء.

تتطلب الإستراتيجية الدعوية السليمة للمسلمين في الغرب، وبالذات الجيل الثالث من المهاجرين، بادئ ذي بدء تحليلاً مستنيراً للثقافة والمعتقدات الغربية المعاصرة، وعلى ذلك الأساس يتم طرح المعالجات التي يقدمها الإسلام بصورة مقنعة بطرح الإسلام بوصفه دواءً.

2- نصر أجوف:

ربما يكون الغرب قد حقق نصراً أيديولوجياً وعسكرياً واقتصادياً على الشيوعية، وأمست الولايات المتحدة الأمريكية منذ غروب شمس الاتحاد السوفيتي السابق القوة العظمى الوحيدة على المسرح الدولي.

كمـا أن الـعـولمـــة الـتقنـية والاقتصـاديـة ربمـا تكـون طريقـاً ذا اتجـاه واحـد يـقـــود من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق. وقد يكون الغرب أيضاً هو المتفوق على المستوى العالمي من حيث دخل الفرد ونسبة المتعلمين في المجتمع، ومتوسط الأعمار، والعناية بحقوق الإنسان بما في ذلك المشاركة السياسية .

كل ذلك قد يكون مسلمًا به لكن هذه الجنة الغربية التي أخذت تقرع الأجراس إيذانا بانتهاء التاريخ (وفقاً لما يقول به فرانسيس فوكوياما)، وتدق طبول الحرب تأهبـاً للصراع مع الحضارات الأخرى (وفقاً للصورة التي يرسمها صمويل هنتنغتون)، هذه الجنة الغربية برغم كل ذلك، تعاني صراعًا عميقًا يرتبط بأسباب وجودها، وذلك من الجهتين النظرية والعملية.

3- التخلي عن المسيحية:

لكي نفهم الوضع الأخلاقي للعالم الغربي، لابد أن ندرك التفرد الذي تتسم به الحضارة الغربية المعاصرة في التاريخ الإنساني العالمي. فهي تمثل أول مجتمع على الإطلاق يعيش دون أن يرتبط ارتباطاً فعلياً بمجال الظنيات. والمجتمع الغربي هو أيضاً أول مجتمع يعيش الإلحاد عملياً (أو على الأقل يتبع مبدأ لا أدري حيال الغيبيات) على أساس معرفي.

إن أوربا قد دخلت بدرجة أكبر من الولايات المتحدة في عهد ما بعد المسيحية. لقد تراجعت المسيحية في أوربا إلى الحد الذي لم تعد معه عاملاً فاعلاً، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، وليس لها سوى تأثير ضئيل في حقل العلوم (تقنية الجينات). وقد اضمحل أثر المسيحية كذلك على أخلاقيات الأفراد.

وعلى الرغم من أن العديد من مناحي الحياة العامة لا تزال تندثر باندثار المسيحية، فإن المادية المطبقة ومذهب التنكر الفلسفي للعينات ونسبية الأخلاق، هي الآنالمظاهر التي ترسم ملامح الواقع الأوربي في كل مجال تقريباً.

وعلى الرغم من جـيـوب هـنا وهناك تبشر ببعث مسيـحي جـديد، فـقـد بـلغ اندثار  المسيحية في الغرب حداً جعل ما كان مشتركاً بين العساكر المسيحيين والمسـلمين فـي العـصور الوســطى من إيمـان بالـله وإيمـان بالـوحـي أكـثر بكـثير -حتى في احلك ظروف الصراع- مما هو مشترك بين المسلمين ومعظـم شعـوب الـغـرب فـي هذا العصر.

4- عهد ما بعد المسيحية:

ليس المقصود من هذه العبارة أن المسيحية قد تلاشت  فقد استمر بقاء الكنائس كمؤسسات، ولا يزال للبابا جماهير رهن إشارته وسوف تستمر الآثار طويلة الأجل للعقيدة المسيحية لبعض الوقت.

إن هناك في الواقع حركات شعبية إنجيلية بروتستانتية، وآثاراً من الأصولية المسيحية الميالة إلى المصادمة والعنف وخاصة في الولايات المتحدة. وهناك محاولات من بعض رجال الدين المسيحي لتطويع المسيحية لتلائم أساليبوتقنيات عصر المعلومات، أملاً في جعل المسيحية أوثق صلة بمعطيات هذا العصر.

وبالطبع كما تنبأ القرآن، فإن المسيحيين الحقيقيين الملتزمين هم الذين يبدون الاستعداد للتعاون مع المسلمين في الشؤون الاجتماعية على المستوى المحلي (وينطبق ذلك على البروتستانت أكثر منه على الكاثوليك أو الأرثوذكس).

ويعلم هؤلاء المسيحيون الملتزمون أنهم قد صاروا بدورهم أقلية دينية في الغرب، فهم بالتالي يعيشون ذات الظروف التي يعيشها المسلمون، إذ أن كلتا المجموعتين تبحران في خضم من الإلحاد يزداد باطراد.

وهناك أيضاً ضرب من التشرد الديني وهو ظاهرة مشاهدة على امتداد العالم الغربي: شباب ضلوا طريقهم في الحياة وشعروا بخوائها، فراحوا بالتالي يبحثون عن الإحساس بالدين وعن المجتمع المتدين وعن أثر الدين في الحياة، فهم يتنقلون من تبعية كاهن إلى آخر ومن نحلة غامضة إلى أخرى، بما في ذلك النّسخ الغربية من البوذية والشامانية.

5- إخفاق (مشروع الحداثة):

أن ردود الفعل المذكورة وغيرها لا تعِدُ -ولعلها لن تفعل أبداً- حتى الآن بتغير ثوري واسع النطاق في المشروع الغربي، مشروع الحداثة، وهو الناتج المستمر فيما أطلق عليه عصر العقل وفترة التنوير التي ارتبطت به في القرن الثامن عشر.

إن محاولات المسلمين لمجابهة هذا الوضع يجب أن تنطلق من تحليل متعمق لهذا النموذج المفرط في نجاحه الشديد في خطورته.

أ) وقفة أخرى مع فترة التنوير:

لقد كان تاريخ التطور الفكري في الغرب وفي العالم الإسلامي متزامناً، حتى  عصر النهضة، الذي قل فيه الاهتمام بالدين في الغرب وانصب على  الفرد.. ولكن اللحظة الحاسمة جاءت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عندما بدأ مفكرو أوربا في التحرر التدريجي من سيطرة الكنيسة، بإعلائهم من شأن العقل الإنساني، واعتبار حكمه هو الفيصل في أمور الدين.

وكان أشهر الشخصيات التي سلكت هذا الطريق هم بالطبع فلاسفة من أمثال رينيه ديكارت (1596م – 1650)، وغوتفريد فيلهلم ليبنتز (1646-1716)، وديفيد هيوم (1711 – 1776)، وإيمانويل كانت (1724 – 1804)، إضافة إلى عدد من كبار الكتاب مثل فرانسوا فولتير (1694 – 1778)، وغتهولد  إفرايم ليستغ (1729 – 1781)، وجوها  ولفغانغ فون جوته (1749-1832)، والملك فرد ريك الثاني (فردريك العظـيم) ملك بروســـيا (1712 – 1782) .

لم يكن هؤلاء ملاحدة، بل كانوا يعتقدون بمذهب الربوبية، وهو الإيمان بإله واحد، ولكن من خلال التأمل والتدبر.

ولم يكن هدفهم القضاء على الدين، بل كانوا يرمون إلى تحرير الإنسان من نير العقائد التي أمسكت بخناقه، ومن الظلامية والضبط والتقيد والرقابة الصارمة التي مارستها ضده الكنيسة المسيحية. ونظرًا لتمسك دعاة الحركة التنويرية بمبدأ حرية الفكر والتسامح وتحكيم العقل، فليس من المستغرب أن يكون بين أنصار الحركة التنويرية من اعترف بتفضيله نظريًا للإسلام دون أن يعتنقه، لما فيه من عقلانية على المسيحية بأفكارها التي تستعصي على المدرك، وعقيدة التثليث التي تتبعها. ومن أمثال هؤلاء (ليسنغ) و(فريدريك الثاني) و(جوته).

ب) من التنوير إلى العدمية :

تحول انعتاق الحركة التنويرية في القرن التاسع عشر من سلطة الكنيسة -للأسف- إلى انعتاق من الدين نفسه. فلم تنبذ فقط عقائد الكنيسة باعتبارها غير عقلانية، بل اعتبر الإيمان بوجود الله نفسه أمراً غير عقلاني، وبدأت حاكميه الله تستبدل تدريجياً بالحرية الذاتية للبشر، التي أصبحت بذلك  الفيصل في قياس كل الأمور. بل أصبح العقل نفسه ديناً، وصار العلم لا يقل في تزمته وقلة تسامحه عن الكنيسة، وطُرح العلم بوصفه تصويراً صادقاً للحقيقة منزهاً عن الخطأ.

وهكذا أدى كفر الإنسان بربه إلى تأليهه لنفسه أو للدولة، كما آلت إليه الحال في الأنظمة الفاشية والشيوعية لاحقاً.

وكان أهم الشخصيات على هذا الطريق المفضي إلى الهلاك: لود فيج اندرياس فيورباخ (1804-1872)، وكارل ماركس (1818-1883)، وتشارلس داروين (1809 -1882)، وفردريش نيتشة(1844 -1900)، وسيجموند فرويد (1856-1939). كان هؤلاء هم الآباء الروحيين لكوارث عجيبة حلت بأوربا خلال القرن العشرين.

وعندما أعلن نيتشة أخيراً أن الله قد مات، فإنه لم يقتل الله بل طرح تشخيصاً مفاده أن فكرة الإله قد انتهت وزالت من قلوب الملايين وسوف يستمر الأمر كذلك. وسرعان ما أدرك الناس أنه إذا كان (الإله) قد مات فكل شيء قد صار مباحاً.

وفقط في هذه المرحلة مع نهاية القرن العشرين ظهرت بشكل مستقل الأفكار السياسية لهوبز الداعية إلى الذاتوية ( Individualism) غير الخلقية.

ج) خصخصة الدين:

وحيال هذه التوجهات دخلت الكنيسة معركة خاسرة ولا تزال تخسر إلى اليوم.. والأسوأ أن بعض الكنائس البروتستانتية تأقلمت مع هذا المزاج السائد إلى حد القبول بتنازلات تخرجها عن نطاقها مما أضر بها أبلغ الضرر. وهكذا نجد أن أغلب البروتستانت في ألمانيا لم يعودوا يؤمنون بألوهية يسوع ولا  بعذرية أمه السيدة مريم. ومن الأشياء التي لا تصدق في هذا السياق أن بعض وعاظهم أعلنوا صراحة أنهم من الشواذ جنسياً، أو أنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت. وضمن هذا السيناريو أصبح الدين في الغرب ذاتياً وانتقائياً بالكامل وأمراً خاصاً في مجمله.

د) اللبرالية المدمرة:

وما أن نحَّوا (الإله) عن عرشه بوصفه مصدراً وضامناً للأسس الخلقية، حتى تفشت النسبية الخلقية والانحلال الاجتماعي وعلى نحو مثير للقلق. لقد جنت اللبرالية على نفسها بالتأكيد بإطلاقها لأهواء لا رقيب عليها، دون أي إطار خلقي ضابط. وبينما تتاح للأشخاص الاستثنائيين ممارسة  حياة خلقية مستقلة مستمدة من القانون الطبيعي أو من فهمهم للكرامة الإنسانية، فإن عامة الناس لايبدو أنهم قادرون على الالتزام بمستوى خلقي لائق بمعزل عن الدين. إن أغلبهم يغتبط بسلوك الطريق الذي يحقق له السعادة، كما يقول ويليام أُفلَس.

إن الانحلال الأخلاقي، كمـا يـرمز لـه بمحرقـة اليهود (الهولوكوست)، هو الظاهرة التي اتضحت شيئاً فشيئاً خلال القرن العشرين لتصل إلى درك الانهيار الخلقي في حالتي الفاشية والشيوعية، والتعصب للقومية العربية، والاستغلال الرأسمالي.

هل كانت صدفة أن القرن العشرين شهد أشرس الحروب في تاريخ البشرية، استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية والذرية، وجرت فيه محاولات مروعة لإبادة مجموعات كاملة من السكان مثل المزارعين في روسيا السوفيتية، واليهود، والغجر، والشواذ جنسياً، في ألمانيا النازية، والمسلمين في يوغسلافيا السابقة ? هل كان صدفة أن عجزت الكنائس والبابا ومواثيق حقوق الإنسان في إيقاف ذلك المد المدمر ?

هـ ) معالجة النفس:

يخدع بعض المراقبين الغربيين أنفسهم بالاعتقاد بأن ما يرونه لا يعدو أن يكون انتقالاً طبيعياً من مجموعة القيم والأخلاق بعينها إلى مجموعة أخرى في عالم دائم التغير.

هذا الاعتقاد غير صائب لسببين:

أولاً : هناك قيم لكل زمان لا يعتريها  التغيير (مثل حب الإنسان لأطفاله، اعتنائه بوالديه، والنفور من قتل الأبرياء، وعدم الإقدام على ممارسة التعذيب تحت أي ظرف).

ثانيا ً: أن بعضاً مما يـسمـونه بالقيم الجديدة، والتي يمجدها شباب هذا العصر، غير مقبولة بذات القدر الذي تـتعارض بـه مـع الـقـيم الخـالـدة الـتـي مـثـلـنا لها في النقطة الأولى. مثال لذلك: أن تزعم إمراة حامل أن بطنها ملك لها، ليكون ذلك مسوغاً لقتل الجنين الذي في رحمها.

وينطبق ذلك على ما يسمى (الحق في الخوف) بمعنى عدم المخاطرة بأي شئ من أجل مصلحة المجتمع. وما يسمى (بالحق في السكر right to intoxication ) الذي تدعيه جماعات من أحزاب (الخضر), فيرون بذلك الاستخدام السوي والسيء لمواد سامة.

والنتيجة هي أن المجتمع الغربي من سان فرانسيسكو بأمريكا إلى برلين بألمانيا صار الآن يتسم بما يلي:

> تفكك الأسرة على نحو ينذر بالخطر (معدلات طلاق مذهلة، أمهات وحيدات، أطفال تخلى عنهم ذووهم)، هذا ينذر بانهيار المجتمع بأكمله.

> ويصحب ذلك استغلال الأطفال والمواد الإعلامية الفاضحة، والممارسات الجنسية المنحرفة والمخالفة للقانون، والجرائم التي تقع في الأوساط المدرسية بين الطلاب، ومعدلات لا تقل ترويعاً من جرائم الأحداث.

> تعاطي المخدرات قد انتشر في العالم الغربي إلى حد أصبح معه إدمان المخدرات ( مثل الكحول والسجائر والماريجوانا والكوكايين والهيروين وعقار الهلوسة ( KSD) ، والمخدر المسمى بسبيد (أي السرعة)، والمخدر المسمى لكشري (أي البهجة)، متغلغلاً في بينة المجتمع الغربي، على أن الإدمان ليس كيماوياً فحسب، فهناك التلفاز والإنترنت اللذان يمكن أن يعتبرا ضرباً من ضروب الإدمان أيضاً.

> كما سرت أيضاً عدوى الذاتوية حيث بدأ الإنسان الغربي يعيش بيئة مشبعة بوسائل الإعلام في عالم كأنه مدينة واحدة عملاقة، فإذا هو فيها مخلوق وحيد قابع أمام شاشة الحاسوب يعيش عالماً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، بل وينغمس في الجنس عبر الهاتف أو الحاسوب.

و- سيطرة النزعة الاقتصادية على المجتمع:

يعزو الخبراء في الغرب هذه الظواهر بصفة رئيسة إلى تأثيرات الاقتصاد الرأسمالي التي تجعل من الإنسان أداة تخدم متطلباته كتحقيق الفعالية، والضبط الأمثل للإنتاج، والسعى إلى تحقيق  أكبر قدر من الأرباح، وزيادة الإنتاجية. كما يقول الخبراء: إن المجتمع يفقد ترابطه خلال هذه العملية، وأن (البرود) أخذ يعتري  العلاقات الإنسانية حتى غدت  أضعف بكثير من حالها قبل وقت قصير.

وبدلا من (اخضرار أمريكا) الموعود فإن ما نشاهده هو برود في أسلوب عيشالأمريكيين. ما يهمهم هو ما تحققه الأسهم، وفي ظل هذا الوباء الذي عم فينا فإن هناك أزمة وقت، والوقت يعني بالتأكيد المال.

ما يمكن أن يقدمه الإسلام

1- البروليتاريا الروحية:

إن ما وصفته -بأمانة- يعنى بوضوح تام أن هناك أزمة تعصف بالغرب وهي أزمة ثقافية وجودية، على الرغم من إنجازات الغرب في ميادين الديمقراطية، وحقوق الإنسان والاقتصاد والتكنولوجيا.

وهي أزمة يمكن أن تأذن بسقوط الغرب بعد فترة لا تطول كثيراً بعد سقوط الغريم الأول للغرب (أي الشيوعية) حوالي عام 1990م. أما اليوم فليس ماكان يسمى بالبروليتاريا الاقتصادية التي نظمها ماركس هي التي تهدد  الغرب، بل أن مصدر الخطر المحدق به هو البروليتاريا الروحية (والتر ليبمان) التي ترعرعت لمدة مائتي عام تحت مظلة التحديث.

2- في سبيل نموذج ديني:

باعتبار أن المحنة الخلقية التي يمر بها الغرب ترجع جذورها إلى نحو مائتي عام، يتضح لناأن الأثر المطلوب لايتأتى  إلا عن طريق نقد جذري لعقلية الحداثة.. فإذا أمكن بنجاح إفاقة حركة التحديث من أوهامها، أصبح متاحاً للإنسان الغربي عندئذ فقط أن يغير أسلوب تفكيره.

إن إنقاذ الغرب من إلقائه بنفسه إلى التهلكة بتخدير نفسه يتطلب  بطبيعة الحال إعادة تأسيس الروابط الوجدانية، عن طريق طرح أفكار (الألوهية) و(المقدسات) من جديد، وإصلاح الدين بوصفه تفاعلات طبيعية للحالة الإنسانية، على أن يصحب ذلك نبذ للعلم الواقعي لافتقاره للأسس العلمية السليمة.

إن المطلوب بعبارة أخرى هو نموذج ديني جديد لفهم العالم. وقناعتي أن الأمل معقود على الإسلام في تحقيق ذلك إن شاء الله.

أ/ الأديان الشبيهة بلغة الاسبرانتو لن تجدي شيئاً:

إنني لا أنكر أنه يمكن من الناحية النظرية للمسيحية أن تنقذ الغرب من انحداره الحالي نحو هاوية الهلاك، ولكنني لا أعتقد أن المسيحية يمكن أن تحقق هذا الهدف في الواقع العملي، إذ أن هذه العقيدة فقدت الكثير من مصداقيتهـا في الغرب. ولايبدو أن المسيحية تتمتع الآن بذلك القدر من الحيوية الذي تحتاجه  لتغير مسارها الحالي. وأجدني في ذات الوقت مقتنعاً بأنه ما من نظام فكري بوسعه أن يرتقي بالمستوى الخلقي للغرب، لا البوذية ولا مذهب الليبرالية التنويرية القائمة على أساس القانون الطبيعي. إن الخيارات الخلقية تتطلب دوافع أخلاقية من القوة بحيث لا تتوفر إلا في دين لا تزال تدب فيه الحياة، وهذا أمر يدركه الإنسان بالفطرة.

إن الأديان الكاذبة أو الأديان الشبيهة بلغة الأسبرانتو لا يمكنها تحقيق المطلوب.

ب/ بوسع الإسلام أن يفي بالمطلوب:

اعتقد أن الإسلام يوفر كل ما هو مطلوب لإنقاذ  الغرب، على الرغم من السلبيات التي يعاني منها العالم الإسلامي نفسه، مثل مختلف المعوقات والأمراض المتفشية في المجتمع المسلم، كالأمية والفقر، والفساد، والظلم الاجتماعي، والتعذيب، والجمود، والشقاق، والتعصب،  والاستبداد، والتمييز ضد النساء بما يخالف تعاليم القرآن، وتنامي الاتجاهات المادية.

أما كون الإسلام قادراً على إنقاذ الغرب على الرغم من هذه النقائص المتفشية وسط أهله فأمر يمكن الاستدلال عليه من التحليل الذي سيرد في المباحث التالية:

3- (البرود) يعتري أمريكا:

في مطلع السبعينات كان جيل الرفض والحيرة وشذاذ المجتمع من الهيبز في المدن يحلمون  (باخضرار أمريكاً) ولكن ما كنّا نشاهده هو أن أمريكا أخـذت تـبرد شيئاً فشيئاً و إن درجة حرارة المجتمع في الغرب ظلت تنخفض بصورة ملحوظة وسط جيل السيبر فأينما وقع بصرك رأيت ما يخالف وصية المسيح عليه السلام: (أحبب جارك كما تحب نفسك).

ورأيت أيضاً تنافساً شرساً، وأناساً يتدافعون كل يسعى في سبيل سعادته الفردية في عالمه الخاص كـ (الشرنقة).

أ/ الدفء يسري في أوصال أمريكا:

ينظر الناس بعين الإعجاب إلى المسلمين تقديراً لترابطهم الاجتماعي، ويفيض الدفء حال التئام شملهم عندما يعانق الأخ أخاه. وينظر الناس غير مصدقين إلى المراكز الإسلامية التي تبنيها الجمعيات الإسلامية بنفسها، ويتطوع عمال البناء منهم بالعمل خلال عطلة نهاية الأسبوع. وكم من  مهتد للإسلام اعتنقه بسبب ما شعر به من صفاء قلوب المسلمين. إن المسلمين يجردون الدين من الخصخصة، وكثير من اليافعين يحبون ذلك.

ب/ الترابط العرقي:

إن التعصب العرقي الذي يعاني منه الغرب لا ينحصر في الولايات المتحدة وإسرائيل فحسب، فالمهاجرون المسلمون  كثيراً ما يتعرضون للتمييز العرقي والديني. ويتمثل هذا التمييز مثلاً في أخذ معلومات تفصيلية إضافية للركاب منهم من قبل سلطات الأمن بالمطارات.

ولا يمكننا أن نزعم أن الإسلام قد تمكن من القضاء على التمييز العرقي تمامًا..  ولكننا نعلن مع جيفري لانغ أنه ليس على الأرض دين آخر بلغ ما بلغه الإسلامفي محاربة هذا الشر.. إن استمرار وجود مساجد السود في أمريكا يمكن أن يعزى’ إلى موقع المسجد، أكثر منه بسبب وجود تفرقة عنصرية. ونسبة لحساسية المعتنقين الجدد للإسلام في بريطانيا وفرنسا وألمانيا لهذا الموضوع فإنهم يرفضون الإغراء المتمثل في تأسيس جمعيات تستند إلى الأصل العرقي. وبدلاً عن ذلك فإنهم يؤسسون اتحادات للمسلمين في بريطانيا  وفرنسا وألمانيا ويعقدون الاجتماعات للمسلمين الناطقين بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية. وقد كان عدم أهمية الأصل العرقي عند المساهمين سبباً أجتذب الكثيرين إلى الإسلام فاعتنقوه.

جـ/ مؤمنون أحرار:

يتعامل الشباب في الغرب بنفور شديد مع أشكال السلطة الهرمية (الكهنوتية). وهم يرون أن تحاشي الإسلام للأشكال التنظيمية التي تتسم بها الكنيسة أمر جدير بالملاحظة  والاهتمام.

وفي الواقع لا تتطلب أي من العبادات المفروضة على المسلم لا تتطلب وجود مسلم آخر ليشهد أداءها. ويمكن لأي فتى بالغ دون العشرين، ويعرف تلاوة القرآن، أن يؤم الناس في الصلاة إذا لم يكن الإمام حاضراً. ويمكن لكل مسلم أن يختار المذهب الذي يريد اتباعه*.

فحامي المسجد النبوي في المدينة والمسجد الحرام في مكة ليس (بابا)، وليس الزواج شعيرة (مقدسة).

وما من شك في أن المسلمين بإنكارهم إمكانية وساطة شخص ثالث عند الله تعالى  يقدمون أنفسهم بوصفهم المؤمنين الذين يتمتعون بأكبر درجة يمكن تصورها من الحرية والانعتاق. لاشيء يمكن أن يتدخل بين المسلم وخالقه، لا كاهن ولا رهبان. وما أن يستوعب الشباب هذه الفكرة حتى تأخذ بمجامع قلوبهم.

د/ اللاعقلانية الدينية:

لا يعتز الغرب بشيء اعتزازه بالعقلانية، وهو ينحاز بطبيعة الحال إلى عالم العقل. وقد علمهم فيلسوف الحَيرة المتناهية في الغرب (أمانويل كانت) أن وجود الله لا سبيل إلى إثباته بالعقل المحض.. إن الاستدلال العقلي هو آخر ما يلجأ إليه الإدراك البشري.. ولكن (كانت) أيضاً ظل يرى أن البشرية لا يمكنها المضي دون أن تنصب لها إلهاً يكون نتيجة للتفكير العقلاني.. ومن المثير للسخرية أن عدداً كبيراً من الناس يتصرفون الآن كما لو كان (كانت) قد أثبت عدم وجود الله، وكما لو كان العلم القائم على الإدراك الحسي معصوماً من الخطأ.

هـ/ العقلانية الدينية:

على أنه يمكن ببساطة إقناع أنصار المذهب اليقيني بأن العقائد الأساسية للمسيحية مثل الخطيئة الأولى، والحلول الإلهي في عيسى(عليه السلام)، وتكفيره عن الغير (على الصليب)، والثالوث -وفي أفضل الأحوال لا تعدو هذه العقائد على كونها  ألغازاً- يسهل إقناع هؤلاء الغيبيين بأن هذه العقائد تتدنى من الناحية العقلية حال مقارنتها بعقيدة التوحيد في الإسلام، أي الصورة النقية لمنطق وحدانية الله وتفرده.  وربما يكونون متأثرين في هذه المرحلة بالفكرة التي تستمد من مختلف الظواهر  الفيزيائية والكيميائية البيولوجية، دليلاً تستبعد على أساسه إلى أقصى حد احتمال عدم وجود الله.. ولربما يدركون في نهاية المطاف أن العلم بدوره، وقد أضحى الآن طرحاً أيدلوجيا في حد ذاته، يستند فقط إلى أسس تجريبية.

ومنذ ذلك الوقت بدا بعض الناس، بعد أن انتهوا عن وصف الدين بأنه غير  عقلاني، بدأوا يدركون أن الإسلام هو الأكثر عقلانية بين كل الأديان، إذ أنه دين من يبصرون ويتفكرون ويتدبرون وهو ما يتوافق بالتأكيد مع اتجاهات الحداثة الباحثة عن عقلانية الوجود.

و/ التوازن البنيوي:

لا يعد إفراطاً في التشاؤم أن يقال: إن إدمان المخدرات، بما فيها الكحول والنيكوتين، قد وصل إلى معدلات مدمرة في الغرب.

لقد انتشرت المخدرات الآن في كل مكان، من المدارس الثانوية إلى الأنفاق. وقد تفشت المخدرات في أحياء بعض المدن الأمريكية إلى حد جعل رجالاً يلقون أسلحتهم بعد أن يئسوا من إمكانية السيطرة عليها. وفي ظل هذا الوضع فإن المسلمين الملتزمين يمثلون، بما عرفوا به من تيقظ وتوازن شامل، يمثلون بارقة الأمل الوحيدة في القضاء على المخدرات. وفعلاً كانت عقود مكافحة المخدرات في العديد من المدن الأمريكية الكبيرة من نصيب منظمات إسلامية، بعد أن ثبت أنها وحدها القادرة على محاربة المخدرات بوسائل ودية وفعالة في ذات الوقت. وهي عملية تبدأ من خلف القضبان.

ومن ناحية أخرى بدأ التدخين هذه الأيام يتحول إلى شيء لا يمثل الطابع الأمريكي، بل غدا يعتبر أمراً غير لائق من المنظور السياسي. ألا يجب اعتبار المسلمين محقين بل ووطنيين في مثل هذه الظروف، وهم الذين عرف عنهم قلة التدخين حتى لا يكاد يشاهد له أثر في أوساطهم.

س/ الأسرة تحت المجهر:

أخذ الفزع ينتاب المتنبهين من المراقبين في الغرب عند تفكيرهم في ما سيحدث للصغار بسبب انهيار الأسرة. إن فكرة مقدم جيل مريض ترعبهم. وفي ظل هذهالأوضاع، نجد أن المسلمين -وهم يرفعون من شأن الأسرة ويعلون مقامها فوق سائر المؤسسات الاجتماعية- هـم أصحاب رسالة يجب أن يصغي لها الجميع: إن تصدع الحضارات يبدأ وينتهي عند مستوى الأسرة.

ح/ خيار الحياة:

نجد أن كثيراً من المحافظين في أمريكا وأوربا منزعجون من كون  الإجهاض قد أصبح مقنناً في كل مكان تقريباً. وفي ألمانيا وصل الأمر إلى أن يدافع الأساقفة الكاثوليك عن الوظائف الإدارية التي يؤدونها في عملية الترخيص بالإجهاض. أما الإسلام  فلا يجيز الإجهاض إلا إذا كان هناك خطر مؤكد يحدق بحياة الأم ، فيقدم بذلك حلاً وسطاً خلقياً. أو ليس أجدى للمحافظين في الغرب أن يتحالفوا مع الإسلام من أن يفجروا عيادات الإجهاض ?

ط/ لا تشدد ولا إباحية:

يبدو أن الغرب ظل منذ زمن الرسل*، بطرس وبولس، والراديكالي اغسطين يتردد بين تيارين، أحدهما متشدد يدعو إلى اعتبار النساء شياطين، والثاني يدعو إلى الانغماس في الملذات الجنسية دون ضابط ولا رقيب ولا حياء. بينما نجد أن الإسلام قد ساعد على دمج النشاط الجنسي في حياة المسلم باعتباره شكلاً من أشكال العبادة دون تشنيع بالنساء أو بالزواج ودون الغلو في تقديس الزواج. هذا النهج المتوازن، الذي يأخذ بعين الاعتبار فطرة الإنسان، يفسر لنا لماذا ظلت الرهبنة وحرق الساحرات ظواهر مقتصرة على الغرب ويمكن للتميز الذي يتمتع به الإسلام في هذا الجانب الشديد الأهمية بوصفه ديناً وسطاً أن يعني الكثير بالنسبة للمجتمع الغربي.

ي/ تحرير المرأة المسلمة:

إن المرأة الغربية لا تنشد التحرير والعدالة الاجتماعية وتحقيق الذات فحسب، بل تطالب بوضع حد للاستغلال الـجنسي الذي تتعرض له بـوصفها أداة للمتـعـة. ونظراً لما آلت إليه الحال من وجود مستمر للمواد الإعلامية الجنسية والسيطرة الصريحة للعامل الجنسي على الإعلانات التجارية، فقد يصبح من الواضح في الغرب أن النساء المسلمات يسعين للحصول على ذات النتائج التي تبتغيها  المرأة الغربية، ولكن المسلمة في مسعاها هذا أكثر نجاحاً بكثير من الغربيات في صون كرامتها من خلال التمسك بتعاليم الشرع الإسلامي.

ك/ التصدي للشذوذ الجنسي:

ما من شك في أن تفشي الشذوذ الجنسي في أي مجتمع هو دليل على التفسخ الحضاري لذلك المجتمع، وإنذار مبكر ينبئ بأن الحضارة أخذت في الانحطاط. وفي الغرب لا يعتبر الشواذ جنسياً والسحاقيات أناساً منحرفين بل يعتبر توجههم هذا واحداً من خيارات متعددة، كل منها يصلح بنفس الدرجة ليكون خطاً يتبعه الفرد خلال مسيرة حياته. ويقوم الشواذ جنسياً بترويج (خيارهم) هذا على نحو يتسم بالعدوانية، وهم في ذلك يطلبون الاعتراف ويحصلون عليه بوصفهم أقلية تحتاج إلى الحماية، كالنساء والسود. وفي سان فرانسيسكو بأمريكا تحول سكان أثنين من أحياء المدينة بكل من فيها إلى شواذ جنسياً. أمافي أوربا فقد أوشك الشواذ على الحصول على (حق) الزواج. ومن ثم التمتع بكـل الحقوق المترتبة عليه.

وفي ظل هذا الواقع تبدأ الأغلبية (المستقيمة) من المجتمع في الاستعداد للمواجهة وقد انتابها الخوف على مؤسسة الزواج، وربما لاحظوا أن الإسلام في هذا المضمار أيضاً يسلك طريقاً وسطاً: حين يتعاطف مع (المولودين) بميول جنسية مثيلة ولكنه يرفض في ذات الوقت بإحلال الشذوذ أو المثلية الجنسية لتكون أسلوباً بديلاً للحياة.

وغنى عن القول إن الإسلام إذا طبق تطبيقاً سليماً كان علاجاً للمخاطر الفتاكة الناشئة عن مرض الإيدز.

ل/ مشكلة زيادة الوزن:

يعاني الإنسان الغربي من القلق بسبب خوفه من زيادة الوزن وارتفاع معدلات الكوليسترول في دمه – لذا فهو في بحث دائم عن وصفات تنظيم الغذاء والأدوية (السحرية) للسمنة.. أما آن لهؤلاء أن يفهموا الإسلام كدين مقنع عند اكتشافهم لفريضة الصوم وقواعدها ?

م/ التعايش مع ضغوط الحياة:

يرزح الإنسان الغربي تحت وطأة الضغوط ولا ينجو منها حتى أطفال المدارس والمسافرون لقضاء عطلاتهم. لذا يبقى هناك احتمال أن يزور الإنسان الغربي طبيب الأمراض النفسية والعصبية لكي يتعلم كيف يواكب ظروف  حياته. إن التأمل الفلسفي (يوغا)، ومراسم تقديم الشاي الياباني تعتبر بعضاً من الوسائل التي يرجع إليها الأفراد الذين يشكون من وطأة الضغوط. إن أمثال هؤلاء يمكن أن يجدوا الدواء  الشافي لعلتهم في أسلوب التركيز والتدبر المنتظم الذي تنطوي عليه صلاة المسلمين والحالة العقلية التي تصحبها (الإسلام هو الاستسلام لله تعالى، والتقوى هي إدراكنا لإحاطته -عز وجل- بنا) .

ن/ تفعيل الرأسمالية:

ظل المجتمع الغربي منذ ظهور الرأسمالية والاشتراكيـة يتردد بين النظامين. أما المسلمون فالقرآن يدعوهم إلى احترام حق الملكية الفردية، لذا فهم بطبيعة الحال مناهضون لمبدأ الجماعية ولكنهم أيضاً يرفضون النزعة الاستغلالية التي تتسم بها الرأسمالية، وذلك بتمسكهم بمبدأ العدالة الاجتماعية تحت كل الظروف. ويتمسك المسلمون أيضاً باستخدام رأس المال فقط في صيغ الشراكة التي تحتمل الربح والخسارة، دون معاملات ربوية وهم بذلك يساعدون في الدفاع عن الروح الاستثمارية التي تعتبر حيويتها أساساً تقوم عليه الرأسمالية (وبفقدانها يصاب النظام الرأسمالي بالتشبع والركود).

4-  الكم إزاء الكيف:

يمكن للمسلمين على العموم أن ينبهوا شركاءهم في الغرب إلى أن أهم فرق بين عالميهم هو موقف كل منهما من مسالة الكم والكيف. فمن الواضح أن الغرب يهتم بالجوانب الكمية إلى الحد الذي جعلهم لا يدعون شيئاً ذا قيمة (مالية) حقيقية إلا وحسبوه بالمعايير الكمية، أي جعلوه رقمياً. وهناك إنكار عام في الغرب لوجود أية قيم لا يمكن حسابها بالمعايير الكمية، أو وجود أشياء لها قيم روحـية فحـسب. وانطلاقا منهذا المبدأ فإن الأساس في حياة الإنسان الغربي هو ما يملك، في حين أن حياة المسلم توجه اهتمامه إلى حياته وكينونته.. إن الشرق، بما فيه العالم الإسلامي، على الرغم مما يخضع له من سيطرة في هذا الجانب، لا يزال يمثل المنطقة التي يعلي فيها الناس من شأن النواحي  الكيفية (أو النوعية) في كثير من جوانب حياتهم ويعتبرونها أعلى قدرا من الجوانب الكمية، ولا ريب في أن هذه الحقيقة، أي كون الإسلام يهتم بالتحديد بنوعية الحياة، سوف تثير انتباه الكثيرين.

5- الإسلام هو الحل:

لقد تعرضت فيما سبق إلى أربعة عشر علاجاً يمنحها الإسلام للغرب، وتقديم الإسلام على هذا النحو، أي بوصفه علاجاً لكثير من علل الحضارة الغربية، هو بالطبع الاستراتيجية المثلى للدعوة لدين الله.

أ/ الاعتراف بوجود المرض :

من المعروف أن العلاج لا يوفر لمريض ما لم يعترف هو أولاً بوجود المرض. ولكن للأسف، على الرغم من التحليلات الذكية مثل كتابات داني بيل وويليم أوفلس، فإن القليل من الغربيين يدركون فداحة الأزمة الحضارية التي تمر بها بلادهم.. فأغلب أهل الغرب قد أعماهم غرور المباهاة بالانتصار. لذا فمن المتوقع من الناس تغيير اتجاههم في منتصف الطريق ولكنهم يمضون قدماً في غيهم يعمهون.

ب/ تناول حبة الدواء:

إن مجرد الاعتراف بالمرض لا يكفي لعلاج المريض، بل يتعين عليه تناول الدواء الموصوف والموضوع على المائدة إلى جانبه. إن جزءاً من المشكلة التي يواجهها الغرب تتمثل في أنه، وللأسف، غير قادر على متابعة التبصر الذي يعينه على التطبيق. إن تخاذل الغرب عن التصرف أو تأخره في ذلك خلال فترة ارتكاب الصرب لفظائعهم في البوسنة والهرسك وكسوفا، نتيجة لسقوطه الخلقي أيضاً، كان شاهداً على هذا الوضع.. وقد أصاب رومان هرزوغ رئيس ألمانيا الاتحادية من 1994 – 1999م، إذ قال: (أن مشكلتنا ليست معرفية، بل هي مشكلة تطبيق).

جـ/ علامات الجدران:

يحدثنا القرآن عن أقوام كثيرين أخفقوا في فهم أعراضٍ ظهرت داخل مجتمعاتهم، وعرضوا عن كل النذر حتى تهاوت حضاراتهم على نحو مأساوي. وإني لفي ريبة من أمر هذا البرود الذي اعترى الغرب، وأظن أنه بدوره سوف يعجز عن استجماع الشجاعة الكافية لإحداث إصلاحات جذرية.

إذا كان الأمر كذلك، فإن الغرب، رغم انتصاره على الشيوعية، قد يكون هو نفسه في طريقه إلى زوال في هوجة سكر يدمر فيها نفسه.. فهو ضحية لتناقضاته الداخلية وأكثرها فتكاً هو الشرك، وذلك بتأليهه للبشر. إن حدوث كل  ما ذكرناه هو أمر محتوم ما لم يعترف الغرب مرة أخرى بالمقدسات والحقائق الغيبية، ويؤمن بالله، ويبدأ من جديد في العيش وفقاً للقيم المطلقة والهدي الرباني، الذي بُلِّغ للبشرية في القرآن المبين، وعززته سنة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>