المسلمون ومنعطف الحادي عشر سؤال التعايش ووضع الممانعة


الغرب وفلسفة الثالث المرفوع

ليس ثمة شك في أن الضربة الموجعة التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية يوم الحادي عشر من شهر شتنبر، شكلت منعطفا خطيرا في تاريخ العلاقات الدولية؛ إذ دخلت – بسببها – المنظومة الدولية في دوامة لا متناهية من التوتر السياسي الذي أسهم في التسريع من وتيرة إعادة رسم الخطوط الكبرى للسياسة الدولية، التي تميزت – فيما تميزت به – قبيل نهاية القرن العشرين بهيمنة نظام يقوم على قاعدة الإكراه الحضاري المدعوم من قبل المؤسسات المشرعة والمستفيدة – في الآن نفسه – من العولمة الليبرالية التي زادت في اتساع الهوة بين الشعوب والأمم، وفتحت الباب على مصراعيه لإدخال العديد من البلدان في بوتقة الجلد الحضاري، وخاصة منها تلك التي لا تتوفر على القواعد الصلبة للممانعة الحضارية.

وتزداد خطورة الحدث على الوضع العالمي إذا ما استحضرنا كون الضربة جاءت بعد شيوع فلسفة صدام الحضارات والثقافات،  وتدويل ثقافة القطب الواحد الذي يسعى بكل الوسائل والإمكانات لفرض نموذجه الثقافي وسياساته على باقي الشعوب ضدا على إراداتها، وتدميرا لقواعدها، ومحوا لاختياراتها العقدية والثقافية والسياسية؛ وذلك بهدف الحفاظ – كما يدعون – على الأمن القومي  والمجال الحيوي خارج الحدود؛ وهو ما أفرز سياسة محددة تأخذ بفلسفة الثالث المرفوع، الذي يدفع بالشعوب إلى اختيار صعب يجعلها إما (مع) أو (ضد) السياسة الغربية، الأمريكية على وجه الخصوص؛ ولذلك لا غرابة في شيوع العديد من المفاهيم داخل قاموس العلاقات الدولية، من مثل مفهوم الإرهاب، الذي أريد به إعادة تقسيم الثقافات من جهة، وضرب العديد من الاختيارات السياسية والعقدية والثقافية التي لا تتماشى والنظام الدولي الجديد المفروض على الأمم  والشعوب المستضعفة.

لا أحد ينكر، إذن، السياق الجديد الذي أكرهت  الكثير من الشعوب على القبول به بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر، سياق يتأسس على فلسفة الإكراه الحضاري والإقصاء الثقافي التدريجي للكثير من الأمم والثقافات التي استعصى تدجينها، من مثل الشعوب الإسلامية التي ما تزال تمانع وتقاوم هذا الاختيار الجديد الذي يسحق كل شيء؛ وما تصنيف نماذج من البلدان ضمن خريطة محور الشر، أو تصنيف العديد من المنظمات والهيئات العاملة في الحقل الثقافي أو السياسي أو ميدان المقاومة، ضن قائمة المنظمات الإرهابية، إلا دليلاً على الرغبة الدفينة من قبل المؤسسات الاستكبارية الجديدة في القضاء على كل ما من شأنه إعاقة المسار الجديد للنظام الدولي الجديد ونظام العولمة الليبرالية. ومهما تكن العوامل والأسباب التي أدت إلى تفجيرات الحادي عشر، فإنها مكنت هذا النظام من فرصة تاريخية غير مسبوقة لإعادة ترتيب الخطوط العامة للعلاقات الدولية من جهة، وضرب كل جيوب المنظمات التي تراهن على المقاومة خيارا للحفاظ على وجودها واختياراتها الثقافية والحضارية.

خيار الفجوز الثقافي

والسياسي الدولي

إننا – إذن – أمام خيار ثقافي يتغذى من الفجور السياسي الدولي، يراهن أصحابه على تحقيق الصياغة الجديدة للنظام الدولي من جهة، وإكراه الشعوب على القبول بالفلسفة الجديدة للتعايش الثقافي من جهة أخرى، الشيء الذي يسمح لنا برؤية عميقة لاستراتيجية التوصيف الإرهابي للإرهاب الذي أصبحت تمارسه  الدولة في حق الشعوب المستضعفة؛ وهو ما يبين – بوضوح – السياق العام للخريطة الجيو-سياسية الجديدة للعلاقات الدولية، تلك التي تعطي لنظام أو أنظمة بمفردها الشرعية في فرض نموذجها على الباقي.

وقد لا نحتاج إلى كبير جهد لنبين أن كتابات العديد من المفكرين والباحثين، من أولئك الذي يسهمون في رسم الخطوط الكبرى للسياسة الدولية من داخل الرؤية العامة لاحتياجات الأمن القومي؛ تحمل بداخل طياتها بذور فلسفة الإكراه  والقوة التي تؤسس لعالم يتحرك بين فكي المواجهة والممانعة. يقول هنتنجتون معبرا عن هذا الضرب من الفلسفة الاستعلائية: “إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع  الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية،  واستمعت إلى الموسيقى الغربية؛ فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد؛ وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية الغربية والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون والتعددية في ظل المجتمع المدني، والهياكل النيابية، والحرية الفردية”.

وفي نفس السياق تسير كتابات مواطنه الياباني الأصل، فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ والرجل الأخير)، والعضو السابق فيهيئة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، والتي اتخذت من انهيار قطب الاتحاد السوفياتي مدخلا للقول بسير المجتمعات باتجاه الديموقراطية الليبرالية في شكلها الأمريكي. يقول مزكيا أطروحة الاستعلاء الثقافي: ” إن وجهت نظري، هي أن هذه الفرضية (فرضية نهاية التاريخ) ما زالت صحيحة على الرغم من الأحداث التي تلت 11 شتنبر. فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة  وغيرها من الديمقراطية المتطورة، ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مبادئ الغرب في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم. إن هجمات 11 شتنبر تمثل  حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث، الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه. لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه؛ وذلك لأن وجود حركة تملك القوة لإحداث خراب هائل في العالمالحديث، حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب، يطرح أسئلة حقيقية حول قدر حضارتنا على البقاء.  والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون، وهم يزحفون باتجاه هذه الحرب على الإرهاب، هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي، وما نوع الحلفاء الذين نستطيع تجنيدهم، وما الذي ينبغي علينا عمله للتصدي له؟.

يظهر مما سبق ذكره، أن هذا الضرب من الكتابات المؤثرة – بهذا الشكل أو ذاك – في صناعة مجموعة من القرارات الاستراتيجية الغربية الخاصة بالأمن القومي، يتساوق والتحولات الكبرى التي يعرفها التاريخ المعاصر الذي دخل الألفية الجديدة على إيقاع حرب حضارية جديدة، تتخذ من الثقافة أحد أسلحتها الأساسية، و قد  لا نغالي إن قلنا في هذا السياق، إن من أخطر مخلفات حدث الحادي عشر من شتنبر 2001؛ تلك المتزامنة  مع إيقاع الحرب الحضارية الجديدة؛ ما له علاقة كبيرة بوجود المسلمين، أفرادا وثقافة في المجتمعات الغربية، ومنها على وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ عاش المسلمون، وما يزالون، على إيقاع الخوف وهلع النفوس وأزمة الانتماء إلى مجتمع زادت الأحداث من قتامة الصورة النمطية التي يكونها الكثيرون من أبناء المجتمع الغربي غير المسلمين عن الإسلام  والمسلمين؛ وهو ما كان فيه للوسائل الإعلامية المتحاملة أثر في التأثير على الرأي العام المحلي والدولي بزرع الخوف من الدين الإسلامي ومن المسلمين الذين تم تصنيفهم ضمن خانة الإرهابيين والبرابرة والمتخلفين، بل وأعداء المدنية الحديثة، حتى أن فوكوياما ذهب إلى حد اعتبار الحركات الإسلامية عائقا أمام الحداثة الغربية ليس في الغرب فقط، بل وفي العالم الإسلامي برمته. يقول موضحا فلسفته الاستعدائية “إن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة. (…) إن الصراع الأساسي الذي نواجهه لسوء الحظ أوسع بكثير،  وهو مهم بالنسبة إلى مجوعة صغيرة من الإرهابيين بل لمجموعات أكبر كثيرا من الراديكاليين الإسلاميين، ومن المسلمين الذين يتجاوز انتماؤهم الديني جميع القيم السياسية الأخرى”. ويزيد مؤكدا اتهامه لقطاع عريض من المسلمين الذين  وصفهم بالمتطرفين والفاشيين: “إن الصراع الحالي ليس، ببساطة، معركة ضد الإرهاب، ولا ضد الإسلام كدين وحضارة، ولكنه صراع ضد الفاشية الإسلامية، أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة التي تقف ضد الحداثة”.

وللعمل من أجل الحفاظ على الذات الباحثة عن الرخاء والرفاهية والتقدم المدنية، يذهب فوكوياما إلى الدعوة إلى ضرورة الحفاظ على لغة القوة في وجه كل من تخول له نفسه المساس ليس بمصالح الأمن القومي فقط، ولكن بالسياسة الخارجية التي ترسمها مؤسسات بعينها، تلك المستفيدة من الهبوط  الحضاري للكثير من الأمم والشعوب؛ ولذلك، فـ”إن الصراع بين الديموقراطية الليبرالية الغربية  والفاشية الإسلامية ليس صراعا بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها، ويستطيع كلاهما ركوب العلم والتكنولوجيا وخلق الثروات والتعامل مع التنوع الموجود في عالمنا المعاصر. وفي هذه المجالات كافة، فإن المؤسسات الغربية تسيطر على الأوراق كلها؛ ولذلك فهي ستستمر في الانتشار في أنحاء العالم على المدى الطويل، لكن الوصول إلى هذا المدى الطويل يتطلب أن نبقى أحياء على المدى القصير. ولسوء الحظ، فإن التقدم التاريخي ليس متميزاً، وهناك القليل من النتائج الجيدة عدا القيادة والشجاعة والتصميم على خوض المعركة دفاعا عن القيم التي تجعل المجتمعات الديموقراطية المعاصرة ممكنة.

الاسلام والـممانعة

تشهد هذه النصوص، وغيرها كثير ،على حدة التوتر الذي علق بالثقافة الإنسانية من جراء ما حصل يوم الحادي عشر، تعرضت خلالها الثقافة الإسلامية – على وجه الخصوص – للمزيد من التضييق والهجوم، باعتبارها الخطر الأخضر الذي تستلزم المرحلة – حسب الكثير من المؤسسات الغربية – الإجهاز عليه كما حصل بالنسبة للخطر الأحمر؛ وفي هذا السياق من حرب المواقع تعرض المسلمون بالغرب إلى المزيد من التضييق والتعنيف، بما يكفي لخنق وتجفيف منابع كل ما من شأنه ليس فقط نشر الثقافة الإسلامية كونيا، ولكن العيش وفق النمط الذي اختاروه بكل  حرية  واقتناع.

لقد أدت أحداث الحادي عشر إلى بروز الثقافة الإسلامية بالغرب إلى الواجهة بما يكفي بجعلها ثقافة تسترعي إعادة البحث عن جذورها وفلسفة تشكلها ورؤيتها للعلاقات الإنسانية. والأخطر من هذا، وذاك، هو أننا أصبحنا أمام توصيف جديد للمسلمين، يتهم بموجبه كل من ينتمي إلى الإسلام، وخاصة منهم كل من يتميز بنشاطه وفاعليته وحركيته، بوضعه بين قوسين، بل ويسميه في كثير من الأحيان بمسميات مستقاة من قاموس الإرهاب والتخلف والبربرية، الشيء الذي أحدث نوعا خطيرا من الخوف في نفوس المسلمين القاطنين بالغرب، وخاصة منهم المنتمون إلى الجغرافيا العربية، لتزداد الصورة النمطية التي تم تكوينها عنهم منذ الحروب الصليبية – وضوحا وقتامة.

إننا على علم – من خلال متابعة الأحداث-، بحجم المعاناة الثقافية والاجتماعية والمالية التي يعيشها المسلمون بديار المهجر من جراء المنعطف التاريخي الجديد، الشيء الذي يضع وضعهم بين مطرقة القبول بسياسة التعايش الثقافي كما تمليها السياسة الغربية، وبين سندات الممانعة التي تحتم عليهم عدم القبول بمخطط التذويب الحضاري – الثقافي، وهو ما تسعى إليه الإدارة الغربية جاهدة، لتشكيل جيل جديد من المسلمين يفتقدون كليا للوسائل الضرورية للممانعة التي تستلزمها مرحلة الإكراه الحضاري وتذويب ثقافات الشعوب.

لقد فرضت، إذن، تلك الأحداث، على المسلمين بديار المهجر أوضاعا وتحديات جديدة أوجبتعليهم التعامل مع مجموعة من القضايا المرتبطة بالشأن الداخلي من جهة، والتعامل مع القضايا الكبرى للأمة الإسلامية من جهة أخرى؛ وقد استطاع المسلمون، بفعل الوجود القوي والمستمر والفاعل للمنظمات والجمعيات الإسلامية بالمهجر، التغلب على مجموعة من التحديات والضغوط والأزمات من مثل أزمتي تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993 وحادث أوكلاهوما عام 1995، والتي خرجوا من جرائها بدروس مهمة في كيفية التعاطي مع قضية الدفاع عن حق المسلمين في العيش بعيدا عن الاتهامات المتتالية التي تجعل من الانتماء للإسلام مقدمة للتطرف وصناعة الإرهابيين. وقد لا نختلف مع الكثيرين إن قلنا إن من أخطر المنعطفات التاريخية التي نمر منها ترتيب البيت الداخلي للمسلمين ليكونوا في مستوى التحديات الراهنة والمقبلة، ومنها على وجه الخصوص، توحيد الصفوف والرؤى والخطاب السياسي، والعمل على تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في المتخيل الغربي الذي تصنعه الثقافة الإعلامية بشكل كبير، ومن ثم العمل الحثيث إلى نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة بالأسلوب الذي يزيد من الحفاظ على الهوية الإسلامية في بلدان يسيرها غول العولمة المتوحش الذي لا يعترف إلا بالربح.

ونشير في هذا الصدد إلى أن من أبرز النتائج السلبية التي  مست الوجود الإسلامي بديار المهجر ما له علاقة  بالموارد المالية، إذ تعرضت المؤسسات المسلمة بالغرب إلى نوع خطير من التضييق والاستنزاف، الشيء الذي أثر بشكل كبير على العديد من الأنشطة الثقافية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، مما زاد الطين بلة، بحيث أضيفت تحديات جديدة على كاهل المسلمين بالغرب، الذين ما يزالون يعيشون على إيقاع الشعور بعدم الأمن الداخلي، من جراء تكالب السياسات الغربية من  جهة، وتخلي الحكومات الإسلامية والعربية عن مسؤولياتها تجاه هذه الأقليات التي راهنت، وما تزال على مغالبة سياسات التذويب الثقافي بنهج سياسة الممانعة الكفيلة بالحفاظ على الأصول عندما تضيع الفروع في المجالات الفارغة، وعلى التوازن النفسي عندما يرتطم بنيان الذات بجدار التيه والقلق  والخوف.

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>