الأمة ونتائج الهبوط الحضاري
لننطلق في الحديث عن القضية أساس موضوع هذه المقالة من حقيقتين لا ينكرهما إلا جاهل أو جاحد؛ تؤكد أولاهما على استمرار مخطط المكائد والمؤامرات ضد المسلمين كأمة تتميز بعقيدتها وشريعتها وفلسفتها في الحياة؛ في حين تقرر ثانيهما تمتع هذه الأمة بمجموعة من الشروط التي تجعلها قوية البنيان الداخلي والخارجي على حد سواء؛ لكن سوء الفهم وترسخ العديد من عوامل التخلف والاستبداد، نقلها من أمة الشهادة على الناس والخيرية الدعوية إلى أمة مستضعفة ومشتتة الأوصال، لا تقوى على الدفاع عن نفسها بالشكل الذي يقتضيه الدفاع عن النفس في حالة الظلم الفاجر للغير، خاصة إذا كان ممن يشهد التاريخ، بأحداثه ووثائقه، على مكائدهم وحروبهم الظاهرة والخفية ضد الإسلام والمسلمين منذ بزغت شمس الإيمان بمكة المكرمة. وقد لا نجانب الصواب إن قلنا في هذا المقام إننا أمة مستضعفة وليست بالضعيفة. وشتان بين الضعف والاستضعاف، كما أنه يصدق فينا قوله صلى الله عليه وسلم وهو يتنبأ بمستقبل المسلمين منذ أزيد من أربعة عشرة قرنا، حيث قال منبها وواضعا إصبع الطبيب على إحدى أخطر الأمراض التي تنهك الأمة منذ قرون : >يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها : فقال قائل : أو من قلة نحن يومئذ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل : يا رسول الله، وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت<(رواه أبو داود في سننه).
لقد وصلنا فعلا إلى مرحلة الغثائية، وتجلت فينا كل مظاهرها. فكيف تقوم هذه الأمة من جديد قومة الرسالي الذي لا يتقاعس في أداء واجبه الشرعي، لأنه يعرف تمام المعرفة أن الله جل جلاله خاطبه ابتداء، منذ قرون مضت، بضرورة مجاهدة النفس والجهاد بالمال وكل ما من شأنه الإسهام في تقوية البناء الداخلي للمسلمين؟ وما أبلغ قول الحق جل جلاله وهو يضع إحدى قواعد النصرة والتمكين والهداية، حيث قال : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(العنكبوت : 69).
لقد أصيبت الأمة الإسلامية بهبوط حضاري خطير أجهز على ما تبقى من عوامل العزة، بل وبدأ يقضي، بالتدريج على المعالم الحقيقية للهوية، بعدما تداعت عليها الشعوب والأعداء من كل جانب، ولا أدل على ذلك وضعها العام الذي تعيشه في ظل الحرب الحضارية الجديدة التي انطلقت سلسلتها ببداية هذا القرن الجديد الذي حمل معه، من القرن الماضي، لغة الصدام والعنف والبغي، وإلا كيف نفسر اللغة التي تعاملت بها أقوى دولة عسكرية مع أفقر شعب وأضعفه على وجه الأرض؟ ألم يعد منطق اللعبة بين قوة القط وضعف الفأر هو المتحكم في العلاقات الدولية؟ أليسمن المؤسف، حقا، أن تموت في الحكومات المنتمية إلى الجغرافية الإسلامية العزة والأنفة وفحولة الموقف؟ لقد مات الإيمان حقا في قلوب المسلمين، فنزع الله المهابة من قلوب أعدائهم، وصدق رب العزة حينما قال {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}(المنافقون : 8)، فأضحينا قلة مع أننا في العدد كثيرون، لكنها كثرة غثاء السيل، والإسلام ما انتصر بكثرة رجاله، بقدر ما نصر الخيرين من هذه الكثرة، أولئك الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه أول مرة، فحق فيهم قوله جل جلاله {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن تكن منكم مائة يغلبون ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون}(الأنفال : 65).
إرهاب الدولة في عصر الصحوة الثقافية
إننا نعيش اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، ظروفا تتسم بالدقة والخطورة في نفس الآن، تجتاز خلالها الشعوب مرحلة تعبئة شاملة بل وحالة من الاستنفار الحضاري العام، ما عادت معه الشعوبالمستضعفة قادرة على تأمين نفسها من مخاطر التذويب الحضاري الذي تمارسه قوى الجبروت والبغي العالميين بموازاة مع تزايد وتيرة التحالفات العسكرية حتى بين أعداء الأمس؛ أولئك الذين نظروا، على الرغم من اختلاف نظاراتهم الإيديولوجية، إلى المسلمين نظرة حقد وعداء وكراهية لا حدود لها، وكانت أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001 التي أعدت سيناريوهاتها بإحكام من يهمهم تحقيق مصالحهم ولو على حساب بني جلدتهم، أقول، كانت تلك الأحداث الفرصة التاريخية التي لن تعوض لضرب المسلمين وقمعهم وكبح حرياتهم وتحريض الحكومات عليهم في محاولة لتطويق حضورهم على الساحة الدولية؛ وقد استعمل منطق القوة هذه المرة بشكل جلي، على مسمع العالم ومرآه؛ وحتى أولئك الذين لم يتعرضوا للضرب مباشرة تم تصنيفهم في خانة الإرهاب الأصولي الذي ينبغي استئصاله من جذوره، أو العمل على تجفيف البويضة كما تقول الأدبيات الصهيونية المعاصرة، في محاولة مسترسلة لتطويق أي إبداع أو نشاط تحرك دواليبه المنظمات أو الهيئات أو المؤسسات الإسلامية ذات البعد الدعوي على وجه الخصوص، تلك التي ترفض رفضا تاما بناء الذات وفق إملاءات الغرب وقروضه وسياسته العامة الموجهة للشعوب المتخلفة والمستضعفة.
إننا لا ننكر إسهام تراكم التجارب الفاشلة للنهوض الحضاري التي عرفتها المجتمعات المسلمة، ومن ضمنها المجتمعات العربية، منذ زمن طويل، حاولت خلالها بعض الحكومات تأسيس الدولة الحديثة تحت ضغط النموذج الحضاري الأوربي الذي أحدث نوعا من الصدمة العنيفة في نفوس الكثيرين ممن انبهروا بذلك النموذج، فعاشوا بعد ذلك حالة فصامية حادة رأت في الغرب العدو والنموذج. أقول؛ إننا لا ننكر إسهام تلك التراكمات في إحداث القابلية للاستضعاف عند المسلمين من جهة، والقابلية للشعور بالقوة والإحساس بالعظمة عند قياصرة النظام الدولي الجديد، الذين يؤمنون تمام الإيمان بأن المنطق الذي ينبغي أن يتحكم في العلاقات الدولية في ظل هذا النظام، هو منطق القوة، لأن هذه الأخيرة في نظرهم هي الكفيلة بالإبقاء على تفوق القلة في مقابل دونية الكثرة. إنه منطق يفسح المجال لرؤية حدود الشعوب العميق بالغطرسة والهيمنة، الذي لم تنتجه أحداث اليوم ومتغيراته، بقد رما أخرجته من سكونه التاريخي، وحولته من مجرد الحلم إلى واقع، حالة الصحوة الثقافية التي عرفتها الكثير من الشعوب التي مازالت تناضل، بكل ما تملك من قوة نفسية على وجه الخصوص، من أجل المحافظة على حقها في اختيار اللون الثقافي والبذلة الإيديولوجية التي تؤمن وتقتنع بها، ومنها الشعوب الإسلامية التي مهما تعرضت للاستضعاف في المرحلة الحاضرة، فإنها لن تركع ركوع السحرة لفرعون لأنها شعوب تقف على أرضية عقدية صلبة لن ينفع معها أي زلزال، أمة يتوالد بداخلها الشعور بالانتماء إلى الهوية الربانية ويزداد كلما تعرضت للإقصاء والتذويب والتدمير.
وقد لا أغالي إن قلت -هاهنا- بأن الأحداث المعاصرة التي يعيش في ظلها المسلمون بما فيها من مرارة وحزن، لن تكون أكثر من أحداث تاريخية سابقة في التاريخ، كانت بمثابة هزة عنيفة للأمة، قوّتها أكثر مما أضعفتها، وتلك إحدى مميزات الأمة الربانية، لأنها أمة مشهود لها بالخيرية والشهادة على الناس، فكيف تندثر؟، وكيف تذوب وتُصهر، وفيها من قيضهم الله عز وجل لحماية الدين، لا بمعنى الدفاع عن وجوده، فالله جل جلاله تكفل بذلك أول مرة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر : 9)، ولكن لتجديد فهم الناس عامة حينما تسود الأبصار غشاوة الجاهلية؟ قال عز وجل مبينا : {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}(التوبة : 32 – 33).
إننا لا ننكرإسهام المسلمين، بهذا الشكل أو ذاك، في تدعيم مسلسل الاستضعاف،الشيء الذي يقتضي تقوية تقليد النقد الذاتي بداخلنا، لا بمعنى الجلد الذاتي وتعنيف النفس، وإنماوضع الذات على محك المساءلة الموضوعية المستمرة التي تمكننا من التعرية الشاملة للفاسد في حياتنا الفردية والمجتمعية، ذلك أن فلسفة العدل ينبغي أن تتأسس باتخاذ الذات منطلقا. قال تعالى مربيا : {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة : 9).
في ضرورة البناء الشمولي للأمة
فمهما بلغ ظلم الغير بنا وقسوتهم على عقيدتنا وبغيهم وبطشهم، لا ينبغي أن ننسى أننا أمة رسالة من الله لجميع من ألهوا أنفسهم فوق الأرض واتبعوا شياطين الجن والإنس ونسوا أنفسهم في عز قوتهم ا لبشرية المحدودة مهما بلغ حجمها؛ ذلك أننا أمة عدل ورحمة وإنسانية، بشهادة القرآن والتاريخ معا، غير أن هذا الشعور لا ينبغي له أن ينسينا، كذلك، أن بلوغ المراد وأداء الرسالة التي كلفنا بها، ابتداء، تقتضي التمكن من مقدمات ذلك، وأقصد على وجه الخصوص : مقدمة القوة، لا بمعنى البطش والجبروت، ولكن بمعنى العزة ومكانة الذات في معترك الصراع من أجل هوية الانسان. فالمطلوب من الرسالي أن يجمع بين شرطين أساسيين قد لا أجانب الصواب إن قلت بأنني أجدهما في قوله جل وعلا على لسان التي قالت لأبيها، وهي تعبر عن موقفها بخصوص موسى \ {قالت إحداهما : يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين}(القصص : 26)، فدل ذلك على أن الأمانة في أداء الرسالة، كيفما كانت هذه الرسالة، تستوجب شرط القوة.
إننا لا ندافع عن أنفسنا كعنصر بشري تقتضي معيشته صراعه ضد كل عوامل الهلاك، بقد رما ندافع عن أنفسنا، إلى جانب ما سبق، لأننا نحمل رسالة هي أمانة في عنق كل مسلم، تصبح واجبا عينيا إذا ما عمّ البلاء وكانت الحاجة الدعوية تقتضي ذلك؛ الشيء الذي يقتضي التوفر على القوة اللازمة والشاملة في آن واحد. ولكن كيف نكون في المستوى المطلوب والنفس مأزومة إلى أقصى حد؟ فلولا تلك الطائفة من المؤمنين، وتلك البقية من الرجال الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، في كل مكان وزمان، لتحطمت أسوارنا أكثر فأكثر وضاعت البوصلة الحقيقية التي بها يسترشد المسلمون كلما تاهت بهم السبل، ولتحطمن في نفوسهم العزة التي بها يتقوون كلما ضاقت بهم الطرق.
وعلى على هذا الأساس، تكون الأمة الإسلامية مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، ببناء الذات بناء شموليا، يجمع بين مختلف المستويات : الاقتصاد والسياسة والتربية والتعليم والإعلام والثقافة والعدة العسكرية المتطورة التي بها نكون أقوياء في زمن المغالبة الحضارية، زمن القهر والاستضعاف، وعلى الرغم من أنني واحدمن أولئك المقتنعين، كامل الاقتناع، بأن الغد للإسلام، فإن الرؤية المبصرة لذلك الغد في ظل واقع الحال تدفعني للتأكيد على ضرورة امتلاك القوة، ليس في زماننا هذا فقط، ولكن في كل زمان حتى يكون بإمكاننا تجديد تدين الناس عامة بما يتماشى والهداية الربانية لهذا الإنسان الذي أبانت التجارب أنه جاهل بحق نفسه عليه وإن بلغ ما بلغ من العلم، وامتلك من القوة المادية تلك التي أخرجته من دائرة الآدمية التي يؤلف نسقها العام التعايش والتعاون والرحمة والعدل، وأدخلته، من تم، في دائرة البهيمية المتوحشة التي يؤلف نسقها الداخلي منطق القوة الباغية والبقاء للأقوى والجبروت والغي، وصدق جل جلاله وهو يشير إلى إحدى مداخل التربية النفسية الأساسية التي بها تتكون آدمية الإنسان الحق : {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم}(الملك : 22).
ذ. انـمـيـرات عبد العزيز