المواجهة الإعلامية مع الغرب :
إصرار الغرب وتخاذل العرب
هذه مصادفة دالة وكاشفة, ففي أسبوع واحد تقرر تجميد الخطة الإعلامية العربية التي وضعت لكشف حقيقة الممارسات الإسرائيلية امام الرأي العام العالمي, بسبب العجز عن توفير مبلغ عشرين مليون دولار اقترحت لتمويلها, في حين اعتمدت إحدي لجان الكونجرس مبلغ245 مليون دولار لتمويل خطة إعلامية أخرى لغسل أدمغة العرب من خلال مشروع جديد للبث التليفزيوني, والإذاعي باللغة العربية, لاتحتاج المفارقة إلى تعلىق, ولكنها تستدعي الانتباه إلى آفاق المواجهة التي غبنا عنها, فحضر غيرنا, وتسيدوا الموقف بغير عناء.
خبر التجميد نعاه إلىنا الأهرام في 2002/04/23 مشيرا إلى أن الخطة المذكورة تم الاتفاق علىها في اجتماع طاريء لوزراء الإعلام العرب, عقد مع بدء الانتفاضة الفلسطينية, التيتفجرت عقب اقتحام شارون للمسجد الاقصى في28 سبتمبر عام 2000، ولكن لانه لا توجد بنود تلتزم الدول الأعضاء بسداد حصصها في الخطة, فان عملية التنفيذ لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام, الأمر الذي أدى إلى توقفها وإلى استقالة الدكتوره حنان عشراوي التي كان الأمين العام للجامعة العربية قد اختارها مفوضة لتحمل مسئولية تنفيذ الخطة, ومما أثار الانتباه في الخبر الذي نشره الأهرام بهذا الخصوص, أنه أشار إلى أن الدول العربية( التي اتفق وزراء إعلامها على وضع الخطة) آثرت ان تعمل كل منها منفردة من خلال سفاراتها, وقنواتها الخاصة, الأمر الذي ترتب علىه إجهاض الخطة الجماعية فور وضعها. الخبر الأمريكي نشر بعد ثلاثة أيام فقط, في 2002/04/27 وجاء فيه ان لجنة العلاقات الدولية بالكونجرس أعدت مشروع قانون أطلق علىه برنامج دبلوماسية الرأي العام وأعتمدت له ذلك المبلغ, لكي يمول عملية البث المقترحة التي ستتواصل لمدة24 ساعة يوميا,. وتغطي منطقة الشرق الأوسط كلها, متبنية خطابا يستهدف تقديم وجهات النظر الأمريكية إلى المستمعين في المنطقة, على نحو يحسن صورة الولايات المتحدة, ويمتص مشاعر الغضب والكراهية التي تكنها شعوب المنطقة للسياسة الأمريكية. ليس سرا ان هذه الخطوة اتخذت بعدما أكتشف الأمريكيون من خلال استطلاعات وقياسات الرأي العام التي أعقبت هجوم11 سبتمبر أن الجماهير العربية والإسلامية لها رأيها السلبي في السياسة الأمريكية, فلم تفكر الإدارة الأمريكية في مراجعة سياساتها, أو لم تمكن من ذلك لكنها عمدت فقط إلى محاولة علاج النتائج دون الأسباب.
حرب باردة جديدة
أن شئت فقل إنها حرب باردة جديدة تشنها الولايات المتحدة وإسرائيل لتجميل الصورة وتسويغ المقاصد والتستر على الجرائم الوحشية التي ترتكب على الأرض, الولايات المتحدة تخوض معركتها في الشرق الأوسط مخاطبة العقل العربي, اما إسرائيل فتخوض معركتها في الولايات المتحدة وأوروبا, مستهدفة محاصرة العقل العربي. في منتصف شهر فبراير الماضي ذكرت صحيفة نيويورك تايمز ان وزارة الدفاع الأمريكية انشأت مكتبا جديدا لـ التأثير الاستراتيجي قامت فكرته الأساسية على تقديم معلومات إلى أجهزة الإعلام والرأي العام, تتضمن مواد إخبارية زائفة للتأثير على الرأي العام, فيما وصف بأنه حملة سوداء للتضليل المتعمد, الذي استهدف تسويغ السياسية الأمريكية, خصوصا حملتها العسكرية ضد أفغانستان, وهي الخطوة التي أدي انكشافها إلى اثارة ضجة كبيرة في الأوساط الإعلامية والثقافية, انتهت بصدور تصريح رسمي على لسان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي, أعلن انه تقرر إغلاق ذلك المكتب. ورغم ان ذلك تم في العلن, إلا أن الذين يفكرون أصلا في تخصيص مكتب للتضليل الإعلامي في العلن, ربما لايتورعون عن ممارسة ذلك التضليل دون إعلان. ليست مصادفة أن تلجأ وزارة الدفاع الأمريكية إلى انشاء مكتب للتأثير الاستراتيجي وان تقرر الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية عام1941 م انشاء مكتب الخدمات الاستراتيجية الذي كان التضليل احد أهدافه, ومن يطالع كتاب الحرب الباردة الثقافية لمؤلفه الأمريكي فرانسيس سوندر (الذي ترجمه إلى العربية الاستاذ طلعت الشايب وأصدره المجلس الأعلى للثقافة بمصر) يكتشف أن ذلك المكتب كان النواة التي بدأت بها المخابرات المركزية, ويدهش للكيفية التي مورست بها تلك الحرب في مجالات الإعلام والفنون والآداب, واستخدمت لاجلها أسماء كبيرة وإصدارات محترمة, ومؤسسات قامت بأدوار مهمة في حياتنا العقلية والثقافية. لم تكتف الولايات المتحدة بمخاطبة الحكومات والأنظمة, لكنها عنيت في وقت مبكر بمخاطبة المجتعات والرأي العام, في السابق كانت العملية تتم من خلال واجهات لاتثير الشك, وبأسلوب لايخلو من الاحتيال والمداراة, ربما لانها كانت تواجه في الملعب ذاته ندا قويا مثل الاتحاد السوفيتي, مما اقتضى ممارسة درجة من الاحتياط والحذر. لكننا نلاحظ الآن ان العملية تتم بقدر أكبر من الجرأة والوجه المكشوف. فالسفارات الأمريكية هي التي توزع على الشخصيات العامة ـ في مكاتبهم وبيوتهم ـ المطبوعات والأشرطة التي تسوغ سياسة الحكومة الأمريكية, وفوجئنا بالسفيرة الأمريكية في الرباط تطلب من وزير التربية الوطنية في حكومة المغرب أن يرتب لها لقاءات مباشرة مع طلاب البكالوريا بمختلف المدارس, لكي تشرح لهم سياسة بلادها, بعدما بينت الاستطلاعات أن درجة كراهية أمريكا عالية بين الشباب المغربي, كما فوجئنا بالسفير الأمريكي في البحرين وهو يطلب من أعضاء نوادي الروتاري هناك أن يقفوا دقيقة حدادا على الضحايا اليهود في إسرائيل, كما وقف المشاركون العرب حدادا على الضحايا الفلسطينيين! ليس ذلك فحسب, وإنما فوجئنا بالإدارة الأمريكية في شهر مارس الماضي, وهي تطلب من أجهزة الاعلام العربي أن تكف عن مهاجمة إسرائيل, بزعم أن ذلك يؤجج مشاعر العداء للسامية( بطبيعة الحال لم تكلف الادارة الأمريكية خاطرها وتوجه الطلب ذاته للقيادات الإعلامية الأمريكية لكي تكف عن التشهير بالعرب والإسلام والمسلمين). الجرأة ذهبت إلى ماهو أبعد, فهم لم يكتفوا بمحاولة اختراق عقولنا ومدارك مجتمعاتنا فحسب, وإنما أرادوا تطويع ألسنتنا أيضا, بحيث يفرض علىنا أن نتكلم لغتهم, ونكره مايكرهون, فهم يصرون على ان نصف أبطال العمليات الاستشادية بالارهابيين أو الانتحاريين على أحسن الفروض, أما كلمة شهيد فانها أصبحت تثير حنقهم وأعصابهم, وقد وصل الأمر إلى حد تصدي رئيس الولايات المتحدة بنفسه للمسألة, ومطالبته الدول العربية في تصريح علني بألا تمنح أولئك الشبان والفتيات البواسل شرف الشهادة وتعميمه “فتوي” على الكافة تقرر انهم انتحاريون وليسوا شهداء! لم يغفر للدكتور غازي القصيبي الشاعر والسفير السعودي في لندن انه نظم قصيدة باسم الشهداء (نشرت في منتصف أبريل الماضي) وأثني فيها على الشابة الفلسطينية آيات الأخرس(18 سنة) من مخيم الدهيشة التي نفذت عملية استشهادية في سوق القدس الغربية, لم يقبل منه هذا التصرف, فاستدعي إلى وزارة الخارجية البريطانية للاستيضاح منه عما عناه في قصيدته, وقال ناطق رسمي باسم الخارجية أننا نتعامل مع العمليات الانتحارية على أنها شكل من أشكال الإرهاب, ونريد توضيح موقفنا للسفير. لا غرابة في ذلك, فحين يصرون على حذف أبواب الجهاد من مقومات الثقافة الإسلامية, ويدعون إلى عدم ترديد الآيات القرآنية التي تفضح ممارسات بني إسرائيل, ويطالبون بإسقاط اسم صلاح الدين ودوره في تحرير القدس من كتب التاريخ, حين يفعلون ذلك ولايردون أو يردعون فينبغي ألا نفاجأبهم وهم يدققون فيمانتفوه به او نكتب, ويطالبوننا باستخدام مفردات ومصطلحات بذاتها, مما يروجون له في خطابهم السياسي.
بقلم : فهمي هويدي