تقديم :
يتساءل كثير من الناس بمن فيهم بعض المثقفين عن حقيقة إدراك العقل، وإدراك القلب، ومجالات استخدام كل منهما، و ما هي الفروق الدقيقة بين إدراكهما، خاصة والوحي السماوي يستعمل في مجالات الإدراك : العقل مرة والقلب أخرى.
والمقال التالي يتناول هذه المقاربة ويحاول أن يقدم إجابات في الموضوع.
يتم استخدام الفكر الإنساني من المنظور القرآني الإسلامي في مجالين مختلفين :
أ-المجال المعرفي التجريبي القائم على البحث والتحليل والدراسة، وميدانه المحسوسات والمظاهر الكونية مما يندرج في عالم المشاهدة، ويستعمل في هذا المجال : العقل الذي يقوم الإدراك فيه على المنطق والاستدلال والبرهنة.
ب-المجال الغيبي الذي لا يدخل في دائرة المحسوس : المعتقدات والغيبيات، والتي يرتقي فيها فكر الإنسان إلى مرحلة التبصر والتفكر النفسيوالمراقبة، مما يندرج في مرتبة الإحسان الوارد في الحديث النبوي : أن تعبد الله كأنك تراه (الشهود)، وقول ابن عباس رضي الله عنه: >تفكر ساعة خير من قيام ليلة أو سنة<.
وعالم الشهود تتوصل إلى إدراك أسراره وتجلياته قوى النشاط الفكري الداخلي التي عبر عنها القرآن مرة بالفؤاد في ست عشرة آية ومرة بالقلب في أكثر من مائة آية، إضافة إلى السمع الذي يدرك المعارف، والبصر الذي ينميها، والفؤاد الذي يجليها.
وقد تحدث القرآن الكريم عن المجالين : الكوني المشاهد، والغيبي المشهود، في قوله تعالى : {سنريهم آياتنا في الآفاق (عالم المحسوسات والمشاهدات) وفي أنفسهم (عالم التفكر النفسي : المشهود الغيبي) حتى يتبين لهم أنه الحق (فصلت 53) والآية كما هو ظاهر تعكس تكامل المعرفي العقلي مع الاعتقادي الغيبي.
وهذا المجال الثاني عندما يرتاده الإنسان يشعر أنه في حاجة إلى هدي سماوي واستعانة ربانية للوصول إلى أسراره وإدراك آفاقه مما يؤكد تكامل : العلم والإيمان.
وتأسيسا على ما سبق فإن هناك فروقا بين إدراك العقل الذي يرتاد العالم الكوني المعرفي والذي يقوم على المنطق والاستدلال والبرهنة – وقد ذكر القرآن له مراتب ثلاث : العقل – النُّهى- اللب – وبين إدراك الفؤاد والقلب الذي يقوم على التفكر والتبصر والإلمام والرؤية التي عبر بها القرآن الكريم عن إدراك الفؤاد والقلب في قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى (النجم 11) حيث أن ما حكاه الرسول صلى الله عليه وسلم من رؤيته لربه تعالى و لجبريل \ ولغير ذلك في المرئيات الغيبية تقتضي في عرف السامع حجما ومكانا وزمانا وهيئة مما قد ينكره العقل الذي يرتاد عالم المحسوسات المشاهدة حقيقة، وما يتصل بمستوى إدراكه المعرفي.
ولكن الفؤاد / القلب الذي ترتقي مداركه إلى الغيبيات…لا ينكره، هذا فضلا عما ورد من تفسير لهذه الرؤية : من أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، وفؤاده في بصره، حيث كانت الرؤية حقيقة بالبصر، وفي صحيح مسلم أنه رأى بقلبه.
ومن هنا فإن ما يدركه الإنسان أحيانا بعقله غير ما يدركه بقلبه، لأن هناك خصوصية لإدراك كل من العقل والقلب، ولذا قد يشعر الإنسان بحقيقة ما ولا يجد لها دليلا عقليا منطقيا، وقد يجد دليلا عقليا منطقيا على فكرة، ولكن قلبه لا يطمئن إليها ولا يقتنع بها.
ويظهر من الاستعمال القرآني أن القلب أكثر وعيا وتثبتا ومقاومة للنسيان من العقل، ومن هنا جاء قوله تعالى : {نزل به الروح الأمين على قلبك} فوعاه صلى الله عليه وسلم وثبت عليه فلا ينساه أبدا. وهذا النوع من التفكير الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان وعالم المشاهدة، مما غاب عن علم النفس الحديث الذي جعل عقل الإنسان ومشاعره أسيرة نشاطه الخارجي المحدود في عالم المحسوسات والمشاهدات التي يكون العقل سبيلها بعيدا عن استخدام المدارك النفسية الداخلية من قلب وفؤاد والتي تساعد على إدراك ما وراء المادة، العالم الميتافيزيقي الذي يقود إلى الإيمان وعالم القيم الروحية.
ونحن الآن في مجال تعليمنا وتربيتنا أهملنا مجال استخدام القلب والفؤاد، أي عالم الشهود واقتصرنا على المجال العقلي المعرفي الذي لا تخفى أهميته وضرورة الاحتياج المتزايد إليه في عالم المعرفة بمختلف أصنافها، ولكننا استعملنا بنوع من الشمولية والخلط حتى لندرج فيه أحيانا ما لا يتم إدراكه إلا باستعمال القوى الإدراكية الداخلية الأخرى : القلب والفؤاد، وعندما يصعب على عقلنا الوصول إلى أسرار هذا المجال النفسي الغيبي قد نلغيه من حسابنا وبذلك نقع في المحظور.
ومع كل هذا الذي قلناه في مجالي استخدام العقل والقلب، فإن هذا لا يعني قصر استعمال العقل على العلم والمعرفة، والقلب على الدين والوجدانيات حتى لا ننساق مع المقولة العلمانية : “العقل للعلم والوجدان للدين” ذلك أن العقل وخاصة في مرتبته العليا : اللب {وما يذكره إلا أولو الألباب}(البقرة : 269) له أن يرتاد آفاق الوحي الغيبي، والرقي إلى مجال الفكر والتبصر، فالمومن الذي يلتمس الحجة والبرهان على صدق إيمانه ومعتقده مما هو ديني غيبي، له أن يستخدم عقله للاستيقان من حقيقة ما هو عليه، ولا يقال له : إن إيمانك يفرض عليك الطاعة والانقياد، وطلبك الحجة ينتقص من إيمانك وعقيدتك، على الرغم من أن التسليم من مستلزمات الإيمان وصدق الله تعالى القائل في خطابه لابراهيم \ : {أولم تومن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة 250) حيث أراد أن يشاهد بالعيان والمحسوس، ما كان يومن به قلبه وفؤاده : الشهود.
- قد ي عبر عن العقل بالقلب : {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي عقل.
-ويعبر عن الفؤاد بالعقل كما هو في قوله تعالى : {وأصبح فؤاد أم موسى فرغا.
-ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به عن الروح و العلم والشجاعة وغير ذلك. الراغب ص : 411.
ذ. عبد الحي عمور