شؤون دولية: أمريكا تضرب من تحت قبعات الصهاينة


د. مصطفى السلاوي

بعد أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية الناهضة من بعد أحداث يوم 11 شتنبر معاقبة (المجرمين) الذين انتهكوا (عرين الأسد) وتطاولوا على كبير العالم، كان على رأس القائمة: الشعب الأفغاني الضعيف؛ على أساس أن هؤلاء هم رأس الحربة وأكثر المسلمين (إرهابا). فخرجت الولايات المتحدة بجيوشها الجرارة وطائراتها الطويلة ودباباتها الثقيلة وأسلحتها من كل الألوان والأنواع والأحجام لضرب شعب لا حول له ولا قوة، وتدمير خراب لم يسبق له أن كان عمرانا. وبعد أن غسل كبير العالم يديه من هذه الحملة التي لم يخرج منها حتى بخفي حنين -كما تقول نحن العرب- ولى وجهه نحو من هو ثانيا في قائمة الانتقام: الشعب العراقي الذي ما يزال تحت العقوبات الجائرة التي لا تطال -سبحان الله- إلا الشعوب الإسلامية أو الشعوب غير الإسلامية التي لا سند لها ولا قوة؛ أو كما نقول -لا عم لها ولا خال ولا صاحب- . إلا أن القوي المنهار الاتحاد السوفياتي وبعض من لا يزال كبير العالم يحسب لهم بعض الحساب حذر من أن تضرب الولايات المتحدة وبعض أذيالها في أوروبا هذا الشعب الذي كان وما يزال يشكل قطرة السم في حناجر الغرب واليهود على وجه الخصوص. فما كان على كبير العالم إلا أن يأخذ من هو ثالث في الرتبة: الشعب الفلسطيني؛ على أساس أن فلسطين مرتع لـ (الإرهاب) و (الإرهابيين).

ولكن هل سيخرج كبير العالم بنفسه وهالته لمحاربة شعب أعزل ضعيف يطالب بحقه في الحياة الكريمة على أرض دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟ هل سيعود كبير العالم إلى كبيرته الأولى: ضرب أفغانستان، التي جلبت له السخرية والاحتقار حتى في عقر داره حين تحدث كثير من الأمريكيين يصفون حرب بلادهم ضد الأفغان بأنها (حرب جبانة) مادام الأمريكيون لم ينزلوا ساحة الحرب مع الأفغانيين، وظلوا يطلون عليهم من داخل طائراتهم من فوق؟ طبعا لن يعود كبير العالم إلى هذه المهزلة التي لم يجن منها إلا الصغار وأنه الكبير الذي ضرب الصغير، والقوي الذي تجبر على الضعيف، والمتقدم المتحضر الذي داس أرض المتخلف البدوي. من سيخرج إذن لمعاقبة (الإرهابيين) في فلسطين، وهم شوكة لابد من استئصالها؟

قيل آنذاك لكبير العالم: لا تخرج بنفسك لضرب (الإرهابيين) في فلسطين … لابد من إجراء هذه الحلقة الثانية على يد جيوش أخرى … من جنسية أخرى … من نوعية أخرى ومن حجم آخر … والمهم تحت راية أخرى … قال كبير العالم: من هؤلاء الذين سيخرجون لتنظيف العالم من (الإرهاب) كما تنظف أسنان الفم من التسوس؟ أنا معجون الأسنان الأكثر فتكا بالتسوس الذي يريد أن ينخر جسد العالم. قيل لكبير العالم محاولة من مستشاريه للتهدئة من روعه: أليس الاسرائيليون ممن يثير الشغب والقلاقل ويزعج الكبار، وهمفي الوقت نفسه داخلون منذ قرون طويلة في صراع مع المسلمين؟ قال كبير العالم: بلى. قيل: إذن نقيم إسرائيل لإبادة (الإرهابيين) داخل فلسطين؛ وهذا مطلبنا، ثم إن الإسرائليين سيعملون بالمناسبة على إبادة الشعب الفلسطيني الذي يعكر عليهم سلامهم ويخطف في كل دقيقة النوم من جفونهم. المناسبة قائمة، فالفلسطينيون في صراع دائم وقديم مع الإسرائليين، والإسرائليون شعب (ضعيف) (مقهور) كالشعب الفلسطيني، وإسرائيل دولة صغيرة كما هو الحال عند الفلسطينيين. هنا إذن تكون المعادلة سليمة والندية قائمة متحققة، وبالتالي تحفظ أنت يا سيد العالم ماء وجهك، وتعاقب وتنظف هذه المرة العالم بفرشاتك التي سيحملها محميك الدائم: إسرائيل … هذا هو سيناريو الحرب الشرسة التي يقتل فيها الشعب الفلسطيني وتنتهك خلالها حرماته.

ليس الصراع إذن هو ذاك الذي نعرفه دائما بين الصهاينة والفلسطينيين؛ إنه صراع من حجم أكبر ومن نوعية مختلفة تماما عما عهدناه طيلة سنوات الانتفاضة. قيل: إن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد هجمات واقتحامات الفلسطينيين الشجاعة. وقيل: إن إسرائيل ما تزال تعيش تحت تأثير وقع اغتيال وزير سياحتها. وقال حماة الصهاينة المنكسرون بعد أحداث 11 شتنبر: إن السلطة الفلسطينية لم تف بالتزاماتها ولم تنجز وعودها. وقيل: إن إسرائل تريد العيش في سلام والفلسطينيون بـ (إرهابهم) يعكرون هذا السلام. وقيل وقيل وقيل … وهذا الذي قيل ويقال ويكرر هو المبرر الذي يلوح به الصهاينة وحماتهم لتصفية (إرهاب) متمثل في أطفال ونساء وشيوخ وقطط صغيرة تجوب الأزقة ومنازل جامدة لا تستطيع حراكا للرد على هذه الهجمات الدالة على سفالة الصهاينة وجبنهم المعروف عنهم بين دفات كتب التاريخ. بل لم تسلم من همجيتهم حتى الأماكن المقدسة الإسلامية وغير الإسلامية.

ولكن هل فعلا هذا هو المبرر لعزل رئيس ورمز السلطة الفلسطينية، وتقتيل وتجويع وتشريد شعب بأكمله؟ هل هذا هو المبرر لحبس رئيس دولة فلسطين الذي كان بالإمس يستقبل من طرف كبير العالم وأذياله استقبالا رسميا، واليوم لا يحرك المستقبلون أصبعا ليقولوا من خلال تلك الحركة: هذا غير معقول ؟ هل هذه هي المبررات التي تقلب مواقف الكبار الذين قالوا بالأمس إن زعيم السلطة الفلسطينية (إرهابي)، ويعودوا اليوم ليقولوا إنه رمز السلطة الفلسطينية؟ الأطفال الصغار في أحيائنا والمصابون في عقولهم لا يحدث لديهم مثل هذا التضارب في القول …

لقد قررت الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار أبراج نيويورك معاقبة (الجناة) الذين لم تقدم للعالم بأسره دليلا واحدا على تورطهم في ما حصل؛ قررت أن تعاقب من لقبتهم بـ (الإرهابيين). فحصرت أماكن تواجد هؤلاء في مناطق من العالم الضعيف المتخلف، خاصة العالم الإسلامي القوي بدينه وفكره وأبنائه الذين لا يحصل لهم أبداالتناقض في القول أو الرأي. فكان أن دشن كبير العالم الأخذ بثأره -كما كان يفعل  الجاهليون وكما فعلتها أمم القرون الوسطى- بضرب أفغانستان: أرض فارغة أو شبه فارغة، وشعب لا وجود له أو شبه منعدم، وقوة لا لفظ لها داخل قواميس هذا الشعب. وكانت الولايات المتحدة ومن يحطب في حبلها من أذيال أوروبا تجهد نفسها طيلة هذه الحرب، في دوائرها الداخلية والخارجية وفي الإعلام والإشهار، على أن تظهر بالمظهر الجميل والوجه الملمع الذي ما خرج إلا لتنظيف العالم وحماية المدنيين: ضرب المدنيين لحماية المدنيين؛ معادلة أخرى من شعب التكنولوجيا والحضارة المتعفنة التي لا أصل لها ولا فصل. الأمريكيون يبنون أسنانهم ويهتمون بها تماما كما يبنون أبراجهم ويهتمون بها؛ لذلك كانت عساكر كبير العالم في أفغانستان كالفرشاة والمعجون الذي يحارب التسوس. ولكن لِمَ لَمْ يَرَ كبير العالم مرة واحدة صنيع الصهاينة علىأنه تسوس ينخر جسد العالم بأسره وليس أمريكا لوحدها؟ لم لا يريد كبير العالم ومن يحطب في حبله أن يفهموا أن الصهاينة هم سبب خراب هذا العالم كما كانوا دوما سببا في ويلات لحقت البشرية في قرونها القديمة والوسيطة؟ أليس قتل الأبرياء في نيويورك (إرهابا)؟ نعم. وقتل الأبرياء في فلسطين كيف نسميه؟ (إرهابا) أيضا؛ هكذا يقتضي منطق العقال … آه الشعب الأمريكي من طينة وعجينة أخرى، والفلسطينيون من عجينة أقل ومن طينة أرخص؟ سبحان الله على كل حال ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

انتهت أو لم تنته حرب كبير العالم في أفغانستان، فكان ما كان من خيبة أمل في الوصول فعلا إلى تحقيق الانتقام وإطفاء نار الغضب التي لن تنطفئ أبدا. معجون الأسنان الأمريكي لم يأت في أفغانستان بنتيجة … ربما لم تكن الكمية أو الفعالية قوية … أو لنقل إن الله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين ولا يبلغهم أبدامقاصدهم؛ بل إنه جل وعلا يجعل كيدهم في نحورهم.

كان لابد بعد هذا من الانتقال إلى من هم في اللائحة في المرتبة الثانية. إنهم العراقيون الذين ما يزالون تحت وطأة (الإرهاب) الذي لا يريد أحد من كبار العالم أن يسميه (إرهابا) … كيف يسمى (إرهابا) ؟ يقولون عندنا في أمثالنا العامية: ” من يقدر أن يقول للأسد رائحة فمك نتنة؟ ” لا أحد طبعا . إذن ليس (إرهابا) تجويع الشعب العراقي وحرمان أطفاله من الحليب والدواء والعيش الآمن الكريم. وليس (إرهابا) تقتيل الشعب الفلسطيني وانتهاك حرماته  وتخريب منازله وحبس رئيسه ؟ ولكن لماذا دائما العراق؟

بعد القفز إذن على ورقة الشعب العراقي أو على الأقل تأجيل أمر البث فيها، جاءت حرب (الإرهاب) الثانية. لكنها الحرب التي سيقوم بها التلميذ ومحمي كبير العالم، الحرب التي ستخوضها الدولة الموجودة دائما خارج القانون … الدولة التي لا يطالها القانون … الدولة المدللة بكل المقاييس والتعابير. كيف كان سيصف العالم المتقدم ما يقوم به الصهاينة اليوم على أرض فلسطين لو حدث على أرض أخرى في أمريكا الجنوبية أو أمريكا الشمالية أو أوروبا المسيحية أو آسيا أو حتى ضد الحيتان في المحيط المتجمد الشمالي أو الجنوبي؟ كيف كان سيصف العالم مثل هذه الهمجية لو قام بها البعض داخل غابة للحيوانات أو وسط محيط من محيطات العالم؟ كنا سنسمع هرجا ومرجا، وكنا سنرى جميع المنظمات العالمية الحكومية وغير الحكومية -وما أكثرها- ستقوم للتنديد وبعث الجيوش وفرض العقوبات، وكانت قرارات الأمم المتحدة -الهيئة التي دخلت متحف الآثار- ستنفد قبل أن يرتد إليك بصرك. ولكن لأن الصهاينة يضربون وينفدون وينتقمون لكبير العالم، فيجب أن يعطل عمل جميع المنظمات وأن تكمم جميع الأفواه وأن تصم جميع الآذان وأن تعصب جميع العيون. فمادام كبير العالم على علم بما يجري، فلا حق لأحد أن يندد حتى ينتهي كل شيء.

وإلا كيف نفسر أن يحاصر رئيس دولة في مكتبه أياما طويلة ولا أحد من أمة الغرب المتقدم يحرك أصبعه، وهو الرئيس الذي كانت تعزف في استقباله أناشيدهم الوطنية؟ لا يمكن أن يكون هذا حتى من قبيل تصرف المعتوهين. ولكن حين يحاصر قط صغير داخل مصعد من مصاعد أبراج الغرب يقيمون الدنيا وتندد منظمات الرفق بالحيوان ونسمع هرجا ومرجا لحماة القطط والكلاب؛ عدا الثيران. سبحان الله كان علينا أن نفهم منذ زمان أن كل شيء مقلوب في حياة هؤلاء الناس الذين يدعون المدنية والتقدم: الحيوانات عندهم ليست في مستوى واحد. ممنوع قتل القطط والكلاب والفيلة وغيرها، ولكن لا بأس في التسلي بدم الثور وهو ينزف من جراء ما ينخر به ظهره من سيوف حادة …

وكيف نفسر أن تداس حرمة أقدم وأكبر كنيسة مسيحية في العالم: كنيسة المهد ولا يحرك أحد من كبار المسيحيين ساكنا؟ وكيف نفسر أن تنتهك حريات العمل الصحفي ويقتل الصهاينة الصحفيين دون أن تحرك منظمات حقوق الصحافة والصحفيين ساكنا؟ وكيف نفسر أن يقتل الأطفال ويحرمون من الخبز والتعليم واللعب والصحة في ظل الهجمات الإسرائيلية الهمجية وتبقى المنظمات الراعية لحقوق الطفل مكتوفة الأيدي؟ وكيف نفسر أن يطلق الصهاينة نيرانهم على موظفي إسعاف الصليب الحمر الدولي وتخرب سياراتهم حتى لا تنقل الجرحى الفلسطينيين ولا أحد من المنظمة الدولية للصليب الأحمر يعارض أو يندد؟ وكيف نفسر الانتقال من الرصاص المطاطي والرصاص القاتل إلى المدفعية الثقيلة والجيوش الجرارة الزاحفة على بطونها وظهورها والطائرات ولا أحد يقول توقفوا إن هذا غير عادي؟ وكيف نفسر … وكيف نفسر … وكيف نفسر … الحق أنها مئات الأسئلة لا يجد العالم بأسره لها جوابا. والسبب أن إسرائيل تضرب اليوم بيد كبير العالم ومباركته ودعواته وشكره الخالص.

لن يخسر كبير العالم هذه المرة ماء وجهه، بل على العكس من ذلك سوف ينتظر إلى أن تبلغ العملية مداها، فيتدخل كعادته لزجر إسرائيل وأمرها بالعودة إلى الأماكن التي كانت بها قبل الاجتياح. وحينها سيقول الجميع مرة أخرى: لولا أن تدخل كبير العالم في الوقت المناسب … بينما الذي وجب أن يعلم أن كبير العالم هو الذي يقف من وراء كل هذه المجازر والانتهاكات الشنيعة التي تطال شعبا بريئا ومن خلاله أمة طالما أبدت الود والمعاشرة الطيبة لأمة الغرب ولكن دون جدوى. لكن الذي غاب عن كبير العالم أنه يتسبب لشعبه في خسارة حب سكان العالم وودهم؛ فلا أحد من سكان المعمور يطيق بعد الذي حدث أن يتعامل مع أمريكي. سيكون الأمريكي بعد مدة كالبعير الأجرب الذي لا يمكن لأحد أن يقترب منه. الدول الحصيفة تهيىء اليوم لأبنائها الفراش الوثير الذي سيرقدون فيه غدا، وكبير العالم يغرس الشوك فراشا لأبنائه الذين سيكبرون ليقرأ عليهم أقرانهم بعد حين تاريخ همجية وبدائية آبائهم وأجدادهم. إن كبير العالم خاسر دائما سواء ضرب بنفسه أم أوكل أمر الضرب إلى غيره

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>