جاء الأعداء المتربصون الذين قال الله فيهم: {ولن ترضى عند اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} البقرة: 120) {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} (البقرة: 217).
جاءوا وفي تخطيطهم أن يقضوا على هذا الدين قضاء كاملا في هذه المرة، وليس مجرد أن يكسروا شوكته ويتغلبوا عليه.
وربما لم يكن هذا الهدف جديدا في ذاته، فقد كان هو الذي حرك هرقل في أول التاريخ لمحاولة وأد هذا الدين قبل أن يستفحل أمره… وكان هو الذي حرك الحروب الصليبية في عصور أوروبا الوسطى.. وهو الذي حركهم اليوم، و لكن ربما كان الجديد في الهجمة الصليبية المعاصرة – التي بدأت في الواقع بعد طرد المسلمين من الأندلس – أنهم جاءوا وهم أكثر اقتناعا بإمكان تحقيق هدفهم هذه المرة، لما رأوه من الأمراض المتفشية في كيان الأمة، ولما استحدثوه من أسلحة الصراع، سواء مها الحربي أو السياسي أو الاقتصادي، وأخطرها جميعا ما نسميه “الغزو الفكري” الذي يسعى إلى اقتلاع العقيدة من القلوب، وهو ما نصحهم به لويس التاسع بعد خروجهم من سجنه في المنصورة وعودته إلى قومه يقول لهم: إن أردتم التغلب على المسلمين فلا تعتمدوا على السلاح وحده ، فقد رأيتم نتيجة الاعتماد على السلاح، ولكن قاتلوهم في عقيدتهم، فهي مكمن القوة فيهم، ومكمن الخطر علينا.. وذلك فضلا عن دخول اليهود بكيدهم كله في حلبة الصراع، من أجل إنشاء إسرائيل.
ولقد قام الغزو الفكري بما لم يستطع أن يقوم به سلاح آخر مما استخدم من قبل مع المسلمين..
هزم المسلمون أكثر من مرة في التاريخ، ولكن الهزيمة العسكرية لم تؤثر فيهم ولم تجعلهم يتخلون عن عقيدتهم أو يستبدلون بها غيرها.
هزموا أمام الصليبيين، وهزموا أمام التتار، ولكن النداء الرباني كان يملأ قلوبهم: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 139). {وكأين من نبي قُتِل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر بنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} (آل عمران: 146-148).
كانوا مؤمنين، و كانت المعركة في حسهم جهادا في سبيل الله.. فما لبثوا أن تجمعوا بعد تفرق، وعزموا بعد وهن، واستعدوا بعد تفريط، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
وحتى في عمق الهزيمة لم يخطر في بالهم قط أن أعداءهم خير منهم، فأعداؤهم كفار وهم مؤمنون، وموطن الاستعلاء هو الإيمان بصرف النظر عن النصر أو الهزيمة في ميدان القتال.
أما في هذه المرة فلم يكن هناك استعلاء بالإيمان، بل كانت الهزيمة الروحية أمام الأعداء، فتمكن الغزو الفكري بصورة لا تخطر على البال.
وفي خلال قرن واحد، بل في خلال نصف قرن في بعض الأحيان، تبدلت الأمة تبدلا كاملا كأن لم تكن في يوم من الأيام هي أمة الإسلام !
تبدل مصدر التلقي، لم يعد هو الإسلام، لم يعد هو الله ورسوله، إنما صارت “الحضارة الأوروبية) وهي المثال المطلوب استيعابه والصيرورة إليه.0. لم يعد هناك صدى في النفوس لقوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}(المائدة: 50). بل صار و صف “الحضارة” الغربيةبأنها جاهلية يعتبر كفرا في نظر المستعبدين للغرب، الذي أكل الغزو الفكري قلوبهم وأفهامهم، وأصبح الإسلام في حسهم هو التخلف والرجعية والبربرية والفساد، وأصبح حجاب المرأة المسلمة هو السجن والظلام، وانطلاقها عارية في الطريق هو التقدم والتحرر، وأصبح الإلحاد والكفر والسخرية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو عنوان “حرية الفكر”، وأصبح الانسلاخ من الإسلام والانتماء إلى الغرب رتبة ونيشانا يتباهى به العبيد.
ثم دخلت “المذاهب الفكرية “: الوطنية والقومية والعلمانية والاشتراكية والديمقراطية..إلخ. لتكون البديل الفكري من الإسلام من جهة، ولتمزق هذه ا لأمة مزقا متفرقة من جهة أخرى، ليسهل على العدو التقامها وابتلاعها بعد أن تعذر عليه ازدرادها و هي موحدة تحت رباط الإسلام، حتى وإن لم تكن وحدة سياسية كاملة بالمعنى الصحيح.
حضيض لم تصل إليه الأمة الإسلامية في تاريخها كله، ولكنه منطقي مع غثاء السيل، لا يتوقع لها سواه.
هذا الواقع هو الذي واجهته -وتواجهه – الصحوة الإسلامية..
ذ محمد قطب