إذا كان القرآن الكريم قد قرر مساواة المرأة والرجل في المسؤولية الإنسانية والاجتماعية والسياسية , وشرع لها حرية التحرك في مختلف المجالات دون قيد أو شرط إلا ما فرضه من آداب منضبطة بأخلاقيات العمل الصالح من أجل تضافر الجهود لبناء مجتمع متين ومتكامل, فإنه يجب التذكير بقضية خطيرة تكاد تكون عاملا أساسيا في كثير من توجهات المرأة نحو ردود أفعال انفعالية أو خاطئة إذا قامت على أساس فاسد , وهي قضية معاملة المرأة بكيفية حضارية سليمة نابعة من اعتبار المرأة إنسانا سويا موفور الكرامة حر الاختيار , وذلك من أجل إقامة حياة طيبة تؤهلها للقضاء على قابليات الذل والعبودية والابتعاد عن حياة الضنك , وترقى بها نحو التحرر الكامل وحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال إلى جانب الرجل , يقول تعالى :{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مومِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً}(النحل :67) فشرط الحياة الطيبة للذكر أو للأنثى العمل الصالح , وسبب حياة الضنك التي تعيشها أغلب النساء اليوم الإعراض عن الله عز وجل, يقول تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أَعْمىَ}(طه :124) .ويمكن تلمس طبيعة المعاملة الحضارية السليمة للمرأة في سيرة المصطفى صلوات الله عليه بوصفها التطبيق العملي للتشريع الإلهي لأنها تستند إلى الآداب الإسلامية في هذا التعامل الذي أجمع الجميع عما يكتنفه من مشاعر اللطف والرفق والتسامح .وأهم معاملة تلفت النظر في هذا المجال وتكشف عن أرقى معاني المعاملة الزوجية ما رواه البخاري(1) : >سئلت عائشة : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله< .وقد عبرت السيدة عائشة رضي الله عنها أبلغ تعبير عن التكامل الذي ينبغي أن يكون بين الزوجين من خلال عرضها لما كان يصنعه عليه السلام في بيته مع أهله بعد أن يرجع من مسؤولياته المتعددة في الدعوة والتبليغ وبناء عقيدة التوحيد في نفس الفرد وبناء المجتمع على أسس شرعية .ولم يكن صنيعه صلوات الله عليه مجرد مساعدة عابرة نابعة من عاطفة حسن المعاملة والحنان فقط وإنما هي خدمة كاملة كان يقوم بها مع أهله بوصفه عضوا عاملا في البيت , وفي الوقت نفسه إشعار بطبيعة المساعدة الزوجية و عدم محدوديتها لتستطيع المرأة القيام بأعمال اجتماعية خارج البيت .وهذا يعني أنه لايعتبر المرأة ملزمة بخدمة البيت كما يعتقد العديد من الرجال وإنما هي بقرارها في البيت أكثر من الرجل لعدم قدرتها على العمل الشاق ولطبيعة نفسها المختلفة عن الرجل أصلح لإدارة بيتها وأنسب من يقوم بخدمته ولها أجر العمل الصالح إن أخلصت في ذلك .ومن المعاملة الأخرى التي تكشف عما كان يكنه صلى الله عليه وسلم للمرأة الزوجة من مشاعر التقدير والإيثار والاحترام ما يجب أن يكون مبدأ أساسيا تقوم عليه حياتنا حتى تستقيم ويعطي شحنة فاعلة للمرأة تزيد من ثقتها بنفسها وبعطاءاتها في مختلف الميادين ما رواه مسلم(2) : >عن أنس أن جارا لرسول الله فارسيا كان طيب المرق فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه؟ يقصد عائشة . فقال :لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا.فعاد يدعوه فقال رسول الله :وهذه؟. قال :لا .ثم عاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :وهذه؟ قال : نعم في الثالثة.فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله<. فهذا الحديث النبوي الشريف يكشف قيمة المشاركة والندية حتى في الأكل التي كان يعامل بها رسول الله الزوجة . ومن الأحاديث التي توجه طبيعة المعاملة الزوجية حديث رواه البخاري(3) عن ابن عمر يأذن فيه عليه السلام لعثمان بن عفان بالتخلف عن غزوة بدر لأن زوجته كانت مريضة وقال له : >إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه<. كما أمر صلى الله عليه وسلم رجلا بالتخلي عن الخروج للجهاد من أجل مصاحبة زوجته في رحلة الحج , فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال(4) : >…فقال رجل :إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي تريد الحج فقال : اخرج معها<. ومثل هذه الأحاديث وغيرها إذا تمثلها المسلم وعامل زوجته على هدي منها فإنه لا شك يعمل على إسعاد زوجته لتتمكن من العطاء أكثر . وإذا كانت هذه الأحاديث تمثل جزءا من معاملته صلى الله عليه وسلم لزوجته أو تمثل تعليمه للصحابة بعض مبادئ هذه المعاملة فإن هناك أحاديث أخرى عديدة تؤسس لكيفية معاملة المرأة في المجتمع بصفة عامة منها نكتفي بعرض حديثين منها :
الأول : عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه< , وهو يمثل قمة الإحساس بالمرأة الأم , والحديث الثاني يمثل إشفاق النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة العاملة والعمل على مساعدتها حسب الاستطاعة فعن أسماء بنت أبي بكر قالت(5) : ..وكنت أنقل النوى من أرض الزبير ..وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال: إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال .. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني استحييت فمضى” . إن جمع هذه الأحاديث وغيرها وتمثلها والقياس عليها والعمل على هديها نصف الطريق لبناء شخصية نسائية متوازنة تنتج وتعطي وتربي وتغير المجتمع .ويظل النصف الآخر مرهوناً بمحاولتها الدؤوبة لتغيير نفسها باستجابتها للقيم الدينية والأخلاق المبنية عليها .وطبعا غني عن التذكير أن كيفية معاملة الرجل القائمة على أسس إسلامية متينة تدخل ضمن منظومة القيم الدينية وما تشف عنه من آداب ولنا في ذلك وقفة أخرى إن شاء الله .
دة. أم سلمى
————
1 – فتح الباري في شرح صحيح البخاري .كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها . باب هبة المرأة لغير زوجها . ج 6 . ص 146 .
2 – صحيح مسلم .كتاب النكاح .باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس . ج4 .ص 150 .
3 – فتح الباري .كتاب المناقب .باب مناقب عثمان بن عفان ج 8 .ص60 .
4 – فتح الباري . كتاب الحج .باب حج النساء ج 4 . ص 234 .
5 – البخاري كتاب النكاح باب الغيرة ج11 ص 234 .