اللهم يا من لا يُسأل غيره، ولا يلجأ إلا إليه، ولا يستغاث إلا به، نسألك أن تغيث هذه الأمة، وأن تلطف بها مما كاده ويكيده لها الكائدون يا أرحم الراحمين.
رجل مُحْدَوْدِبُ الظهر مع أنه يبدو في الخمسينات من العمر فقط، معمم الرأس أشقر اللون، أزرق العينين، ذو لحية قصيرة، ويرتدي جلبابا عاديا، تبدو عليه البداوة، يقود حمارا، ويسير في أحد أرقى أحياء مدينة فاس – طريق صفرو – ينتقل من زقاق إلى زقاق! إلى هنا، الأمر عادي، ولا شيء يثير الفضول فإنما هو رجل يذكرنا بعطار كان يتجول على حماره بين القرى، وبآخر كان يبيع الملح منتقلا من بادية إلى أخرى حين كنا صغارا، وفجأة، وبدون سابق إنذار ينقلب العطار المسكين، الفقير المملق، إلى مُنصِّر ماكر، قد ملأ العِدّْل “الشواري” بكتيبات ومنشورات تدعو إلى النصرانية… وغطى “شواريه” تعمية وتدليسا، وقد أوقفه أحد المواطنين ما تزال فيه غيرة على دينه، بعدما اطلع على ما عنده، وبدأ الناس بالتجمع، وحضرت السلطات المعنية ليسدل الستار على هذه الكارثة الأخرى باعتقال كل من المنصر وحماره، و حملهما معاإلى حيث يعلم الله… كان هذا عشية يوم الأربعاء 24 أبريل 2002م.
بت أفكر في مصائبنا التي لا تكاد تنتهي، و محننا التي تتوالى ولا تتوقف، وعرفت أن ذلك كله بما كسبته أيدينا {وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، تركت الدماء الطاهرة التي تسيل في أكثر من مكان، والمؤامرات التي تحاك ضد أمتنا في السر والعلن، وغير ذلك مما ابتلينا به من شدائد ومصائب في هذه الأزمنة العجاف، وصرت أتساءل مع نفسي : لماذا تجرأ هذا المنصر – وغيره كثير – على القيام بهذا العمل؟ من مهد له ولأمثاله الطريق المادية والمعنوية؟ ومن الذي يقوم بالتنصير في بلاد كانت قلعة الإسلام في غرب العالم الإسلامي قرونا وقرونا؟ أفراد أم جماعات أم مؤسسات؟
أسئلة كثيرة، تركتها وأسلمت نفسي للنوم، وفي الصباح زادت الصدمة، وعرفت أن الأمر خطير بالفعل وأنا أقرأ في جريدة “الأيام الأسبوعية” أبرز عناوينها “الأيام تستجوب شابا مغربيا تحول إلى “المسيحية” وتلتقي بأسرة تنصرت بكاملها من ضمن: مغاربة خرجوا (1) عن الإسلام. إن الأمر خطير إذن، ويحتاج إلى وقفة تصحيحية قوية، وإلى مراجعة دقيقة لحساباتنا، وإلى محاسبة جدية على ما و صلت إليه الأمور، وعدت لأتساءل مع نفسي من المسؤول عن تنصر هؤلاء؟ وكيف وصل إيهم المنصرون؟.. أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة صريحة، ونيات صادقة، وعزائم قوية لإصلاح الخلل قبل أن يستفحل الخطر إن لم يكن قد استفحل بالفعل.
ويبقى السؤال الأهم -بعد كل ذلك- هو: ما هي الأسباب التي شجعت المنصرين على القيام بهذا العمل وسط المسلمين، ودفعتهؤلاء المسلمين إلى قبول التنصر؟
إن هناك جملة من الأسباب لابد من الوقوف عندها، أهمها – في نظري- ما يلي:
1)-تجهيل الناس بالإسلام:
فماذا يعرف رجالنا ونساؤنا، فتياننا وفتياتنا عن الإسلام عقيدة وأحكاما؟ ماذا يحفظون من كتاب الله تعالى، وماذا يعرفون من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وماذا عن دراستهم لأحكام الحلال والحرام؟ لا شيء، لقد تعرضوا لعملية إفراغ خطيرة في كل ذلك، والقربة إذا أفرغت من مائها العذب ملئت بغيره، هؤلاء الرجال والنساء، والفتيان والفتيات تعلموا في مدرسة تجعل من التربية الإسلامية – في شقها النظري- مادة ثانوية في أحسن الأحوال ! وتربوا على تلفزة تشحنهم بالأغاني والأفلام والمسلسلات والمسرحيات والبرامج التي تناقض مبادئ الإسلام وأحكامه، وتهدم أسسه وأركانه، و لا تعرفهم بالإسلام إلا كما يدخل المخيط في اليم كل جمعة، ثم لا يرجع بشيء.
والتجهيل الممنهج بالدين هو أهم أسباب التنصير، لأنه – كما يقول محمد الغزالي رحمه الله : “من الصعوبة بمكان أن يرتد مسلم عن الإسلام إلى النصرانية، كما أنه من الصعوبة بمكان أن يرتد طالب جامعي إلى الابتدائي أو يتحول عالم ذرة إلى العمل بمعبد هندوكي (…) ومن ثم فلست أخاف على الإسلام من جهود المنصرين، مهما اشتدت فهي إلى بوار، لكن هناك أساليب أخرى جربها الاستعمار العالمي، وأعان بها الاستشراق والتبشير إعانة مخوفة، وهي التي نتحدث عنها هنا، والمحور الذي تدور عليه هذه الأساليب، فصل المسلم عن دينه بطرق شتى وجعله يستقبل الحياة فارغ القلب من عقيدة ، عاري السلوك من عبادة وخلق، شاعرا بوحشة البعد عن الله ووصاياه… وبذلك يتحول إلى هدف سهل للمنصرين، إنهم والحالة هذه لم يصطادوا مسلما، بل استولوا على امرئ شريد لا قلب له ولا مأوى”(2) وهذا ما يحدث بالضبط.
2)- تشويه صورة حملة القرآن الكريم وتفقيرهم :
لأن حملة القرآن هم مصابيح الهدى، وفرسان الدعوة ولذلك تآمر عليهم المتآمرون، فقد كثرت الحكايات المنفرة عنهم، وأصبحت صورتهم تثير التعجب والاستغراب، وترسَّخ في ذهن أغلبية الناس أن حامل القرآن هو ذلك الشخص الذي يقرأ القرآن على الموتى وفي المقابر، وينتقل من زردة إلى أخرى بحثا عن درهم هنا وآخر هناك، أو هو ذلك الشخص الذي يكتب التمائم ويقرأ التعاويذ على المجانين… بينما الحقيقة هي أن حامل القرآن شيء آخر تماما. إنه ذلك الشخص القائم الصائم، العالم العابد، الداعية الزاهد، ولكنه التنفير المقصود عن كتاب الله تعالى، و محاربته بطرق ملتوية، بل إنه الصد الممنهج عن الأصل الأول للرسالة، وبالتالي عن الرسالة كلها!
3)- القدح في أئمة الدين، وأعلام الهدى:
ففي زمن الأبطال والنجوم… ظهرت منابر تخريبية في بلادنا الإسلامية، تلبس لباس الإعلام وتسمى باسمه، أخذت على عاتقها الطعن في أئمتنا الأعلام، والنيل من قدرهم حتى تشوه صورتهم في أعين هذه الأجيال المقصود تجهيلها، ويبقى نجوم الغناء، وأبطال الرياضة… الأمثلة التي يجب أن تحتذى… والنماذج التي تستحق أن يقتدى بها وما تعرض إليه الأئمة: سفيان الثوري ومحمد بن ادريس الشافعي ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم رحمهم الله في صحيفة لا هدف لها إلا التفسيق والتخريب، ولا برنامج عند القائمين عليها إلا إشاعة الفاحشة، و الدعوة إلى الرذيلة، من قلم مسموم، صاحبته نكرة مدفوعة الأجر مسبقا خير دليل على ذلك.
4) النقص الحاد في الخِدْمات الضرورية.
فهؤلاء المنصرون يستغلون الفقر المذقع لكثير من الناس، خصوصا في البوادي، والنقص الحاد الذي تعاني منه بعض الخدمات الضرورية كالتطبيب مثلا، دون الدعوة إلى معتقداتهم الفاسدة، أو الإعلان عن نياتهم الخفية، وإنما يتركون ذلك لمن يأتي بعدهم، و هذا واقع ملموس في عدد من المناطق، فيالوقت الذي تصرف فيه أموال الأمة على الحفلات والسهرات والبرامج التافهة…
5) انعدام وسائل الدفاع :
كان على من يعنيهم الأمر بعد أن لم يبادروا بأداء الواجب الإسلامي في دعوة الناس جميعا – ومنهم النصارى- إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، أن يهبوا على الأقل للدفاع عن الإسلام، وحماية المسلمين من هذه الهجمة التنصيرية الخطيرة، و ذلك بمضاعفة الجهود في جمع ما يوزع من أشرطة وكتيبات ومنشورات، والتشويش على الإذاعات والقنوات التلفزية، وقبل ذلك وبعده، إعطاء الفرصة الكاملة والكافية للعلماء من أجل تعليم الناس وتوعيتهم، وربطهم بالله عز وجل، و تسخير الإعلام – المسخر للهدم – للبناء وخدمة هذا الهدف.
6)- تقصير الدعاة إلى الله:
ففي الوقت الذي يبذل فيه المنصرون كل جهودهم، يستخدمون كل إمكاناتهم وينفقون كل أموالهم، ويستعملون كل ما يمكن استعماله من الوسائل: الأشرطة، الكتب، المنشورات، الإذاعات، القنوات الفضائية، المؤسسات التعليمية: مدارس – معاهد- جامعات، الهواتف الا نترنيت…. وكل ذلك في أغلبه بالمجان، بل ولا مانع من استخدام الحمير والبغال… إن تطلب الأمر كما في هذه النازلة، نجد بعض الدعاة يحسبون الدعوة متنزها، ويظنون طريقها مفروشا بالورود، وقد تجد منهم من يكتفي بالحضور في جلسة أو إلقاء محاضرة أو تأليف كتاب، ليحدث نفسه بأنه قام بجهاد دعوي لا مثيل له، وأنه أبرأ ذمته وأدى ما عليه، ألا فليعلم هؤلاء أن الدعوة علم وتعلم، ورباط وجهاد بالليل والنهار.
هذه أهم الأسباب التي تمهد الطريق أمام المنصرين -ولو عن غير قصد- أهمس بها في أذن كل من يعنيهم الأمر من مسؤولين وعلماء وإعلاميين و غيرهم. من أجل إعداد الشعب إعدادا إسلاميا، وتطهير الحياة العامة من التيارات الفكرية المنحرفة، وبناء مجتمعنا وصياغة أجياله المتلاحقة وفق المنظور الإسلامي {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
بقلم امحمد العمراوي
———–
1 -انظر لماذا لم يعبر القائمون على الجريدة بالارتداد لتكون العبارة “مغاربة ارتدوا عن الإسلام” الذي هو المصطلح الشرعي الوارد في الكتاب والسنة، المتفق عليه بين فقهاء المسلمين.
2 -صيحة تحذير من دعاة التنصير للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ص: 113.