الحمد لله الذي لم يخل زمانا ولا مكانا من قائم له بالحجة فيه على الناس، إنهم العلماء الربانيون العاملون ورثة الأنبياء، حراس دين الله في الأرض كما أن الملائكة حراس السماء، يذودون عن حرمات هذا الدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
لا ينتقصهم إلا ناقص، ولا يبغضهم إلا بغيض، من رماهم بالثلب ابتلاه الله قبل الموت بموت القلب، ألا إن سنة الله في منتقصيهم مشهورة ومعلومة.
ويرحم الله من قال : ما ضر السحاب نباح الكلاب.
وما هؤلاء المنتقصون لأقدار الأئمة الصالحين إلا كمن يرمي السماء بالتراب يريد أن يغبرها فيأبى التراب إلا أن يعود عليه جزاء وفاقا.
والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه على أنه لا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وبعد: فقد طلعت علينا إحدى )الكاتبات( في هذا البلد _ المغرب _ تنتقص علما من أعلام هذا الدين الذي أطبقت الأمة على عدالته وتلقي كتابه بالقبول، وتقبّحه _ قبّحها الله _ في جريدة الأحداث هذه، في عددها : 1157 / 8 محرم 1423 / 23 مارس 2002.
_ إنه “الإمام المفرد الجبل العلم” أمير المؤمنين في الحديث “أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري” يرحمه الله _ بشبهات أوهى من نسج العنكبوت أكل عليها الدهر وشرب، ونبت عليها العشب واخضرّ ويبس، ونسجت عليها العنكبوت، أجاب عنها العلماء قديما وحديثا.
ولو لم يكن عند المسلمين إلا الإجماع على عدالة الإمام وتلقي كتابه بالقبول سلفا وخلفا حتى ممن لم يعرف بصحة تامة في المعتقد لكفى دليلا في الرّدّ على هذا الهراء الذي لا يستحق أدنى التفات إليه، لولا ما يخشى على أبناء الأمة من هذه الشبهات لجهل الكثير منهم بهذا الدين وأعلام هذا الدين.
وهذه الكاتبة ليست من أهل التخصص حتى يلتفت إلى هذيانها، ولا ممن تعرف بصدق الالتزام بدينها.
وما مثل هذه الشبهات إلا كضباب الصباح لا تلبث الشمس أن ترسل عليه أشعتها الضعيفة الأولى حتى ينكشف الغطاء وتظهر الحقيقة.
إنّه الحقد على هذا الدين، وكل من ينتسب إليه ويحمل لواءه ويدعو إليه.
أريحوا أنفسكم يا هؤلاء، فإنكم لن تغيروا من حقيقة دين الله شيئا أبدا، إنّ على الحق نورا،وإنّ على الباطل ظلمات وظلاما، ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” الحجر : 9
وقد قيل لبعض أهل العلم فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحا وشبهة تتبخر افتضاحا.
وإنّه ليسعدنا أن يزداد الحقّ ظهورا وبيانا وذيوعا وشيوعا عندما يقوم الباطل أمامه، فلولا الليل ما عرف النهار، ولولا الباطل ما عرف الحق، ولولا الشبهات ما عرفت الحجّة، ولولا الكذب ما عرفالصدق، وبضدّها تتميز الأشياء.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت
أتاح لها لسان حسود
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فتلك الشهادة لي أني كامل
ويشاء الله للإمام “الجبل العلم” بعد غفلة من المسلمين عن دينهم وجهلهم العظيم بأعلام دينهم، يشاء الله بعد ذلك كلّه أن يرفع لهذا الإمام ذكره، ويقيّض من الألسنة والأقلام ما يذكر المسلمين عامة بفضل الله به على هذا الدين، ويشف الله بذلك صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم، ويزداد الكفرة أعداء هذا الدين وأذنابهم حقدا إلى حقدهم، وبغضا إلى بغضهم حتى يقولوا : يا ليتنا لم نفعل ما فعلنا، فإنّا أيقظناهم، وعلّمنا جاهلهم، وفضحنا أنفسنا بينهم.
إنّ حب الأمة لعلمائها عطية من الله لهم في قلوبهم، ولا سلطان لأحد على قلوب الناس لينزع منها هذا الحب.
وإن ذلك الهراء الذي فاهت به تلك الكاتبة المتملقة لجريدة الأحداث لن نطيل الكلام في الردّ عليه بأكثر من بعض التنبيهات أراها كافية في الدلالة على غيرها.
أولا : يكفي أنها ثمرة من شجرة خبيثة، وهل يجنى من الشوك العنب، وهل تلد الحية إلا حوية، ولا العصا إلا عصية.
ثانيا : إن الطعن في بعض من روى عنهم البخاري _ رحمه الله _ أجاب عنه ابن حجر _ رحمه الله _ في مقدمة الفتح بما يشفي ويكفي جملة وتفصيلا بما لا مجال فيه للشك في صحة ما روي عنهم، وجلّ ذلك في المتابعات والشواهد وقليل منه في الأصول.
وأذكر جوابه المجمل أما المفصّل فليرجع إليه من شاء.
يقول رحمه الله : الفصل التاسع : في سياق أسماء من طعن فيهم من رجال هذا الكتاب مرتبا لهم حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعا موضعا، وتمييز من أخرج له منهم في الأصول، أو في المتابعات، والاستشهارات مفصلا لذلك جميعه.
نص الجواب المجمل : يقول رحمه الله : وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان، مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول.
فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي، وفي ضبطه مطلقا، أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح.
وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه البخاري في الصحيح : هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره : وهكذا نعتقد وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.
يقول ابن حجر : قلت فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح لأن أسباب الجرح مختلفة، ومدارها على خمسة أشياء : البدعة أو المخالفة أو الخلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلس، أو يرسل.
أقول : وقد أجاب أن ليس في الصحيح ما يتوجه إليه الطعن بشيء من ذلك فقال : فأما جهالة الحال : فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح……فتتبع ذلك في موضعه مقدمة الفتح ص 544.
ثالثا : أما القدح في الصحيحين بدعوى الرواية لبعض المبتدعة الدعاة.
فجوابه ما قاله الدكتور “نور الدين عتر” في “منهج النقد في علوم الحديث” ص84 وأما ما وقع في الصحيحين من الرواية لبعض المبتدعة الدعاة، فلا يخل بهذه القاعدة، ولا يطعن في الكتابين، لأنه قليل جدا كما حقق الحافظ بن حجر في “المقدمة” 178 _ 179 وقد توفر فيهم من الصدق ما لو أن أحدهم أن يخر من السماء أهون عليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،وواضح أن هذا الأمر لا يستطيع تقديره غير أولئك الأئمة المعاصرين للرواة أو قريبي العهد بهم كما أن النادر لا حكم له.
رابعا : وأما ما وقع في الصحيحين من الرواية عن بعض المدلسين فجوابه من “النقد” أيضا يسبقه كلام مرتبط به :
والصحيح الذي عليه جمهور الأئمة التفصيل : وهو أنّ ما رواه المدلّس الثقة بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المنقطع مردود.
وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو ” سمعت، حدثنا، أخبرنا ” فهو متصل يحتج به إذا استوفى باقي السند والمتن وشروط الاحتجاج.
وهذا لأنّ التدليس ليس كذبا، وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل، فإذا زال الاحتمال كان الإسناد متصلا، وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء، لا سيما الشافعي، فإنه أجراه في من عرفناه دلّس مرة.
ويدل على صحة ذلك : أنّ في الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة كثيرا من أحاديث هذا الضّرب مما صرّح فيه بالسماع، كقتادة، والأعمش، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وهشيم. فتصحيح الأئمة لأحاديثهم التي بينوا فيها اتصال السند يدل على ما قلناه.ص 384.
وفي هاتين الفقرتين الأخيرتين من سياط الحق والنور ما يقصم ويبدد ظهر وضباب ذلك الطّعن في الجبل العلم بالتدليس، وهل هي إلا كلمة حق أريد بها باطل، فما ضر البخاري _ رحمه الله _ أن يكون مدلّسا ما دام تدليسه من قسم المقبول الذي صرّح فيه بالسماع من جهة أخرى _ إن صحّ أن يقال فيه ذلك ولو بذلك الوجه، ولا نرضاه أبدا_ ما دام تعديل الأمة له بإجماعها _ والحمد لله _ كافيا في عدالته لا يحوجنا الله به إلى قول المغرضين الحاقدين.
وما نسبة ذلك لأولئك الأئمة بذلك الوجه _ و إن صح عنهم فمحمول على ما ذكرنا _ إلا نسبة لهم إلى الطّعن في هذا الإمام، والأمة شاهدة ببراءتهم من ذلك، وهذه كتبهم تقطر أدبا ووقارا مع الصحيحين، وإماميهما.
أولئكم الأئمة الذين نسبت إليهم ذلك هم : ابن كثير، واللكنوي، وسبط بن العجمي، والألباني رحمهم الله.
أما الكوثري فنعم، ويكفي أنّ من بركة علمه : أن يجد أمثال هؤلاء في كلامه مرتعا خصبا لنبز ولمز الأئمة كما هو صنيعه.
وهذه أقوال الأئمة معزوة إلى كتبهم، تنفي التدليس عن الإمام البخاري رحمه الله، والواقع قبلها أدل على ذلك.
يقول ابن القيم _ رحمه الله _ : فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس. ” إغاثة اللهفان ” ج : 1 ص : 277
ويقول الحافظ العراقي _رحمه الله _ في شرحه لألفيته ص : 46
واللقاء في شيوخه معروف، والبخاري سالم من التدليس.
يقول السيوطي _ رحمه الله _ في ألفيته :
وما أتانا في الصحيحين بعن
فحمله على ثبوتته قمن
ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : وقد وقع في الصحيحين أحاديث كثيرة من رواية بعض المدلسين الثقات، ولم يصرحوا فيها بالسماع، كقتادة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الرزاق. وهو محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى غير التي ذكرها صاحب الصحيح. شرح ألفية السيوطي : ص 29
خامسا : لا ضير عل البخاري رحمه الله فيما ضعف الألباني _ رحمه الله _ من الأحاديث في “الأدب المفرد”، فهو لم يلتزم فيه من الصحة ما التزم في الصحيح، ولازم هذا إذن أن ننسب جميع الأئمة ممن قد يجمع بعضهم الضعيف الساقط والموضوع لينبهوا الناس إليه لا ليحتجوا به إلى ذلك، فيلزمهم الخصم ما لا يلزم.
سادسا : وأين ما ادّعته من الإجماع على تضعيف ” يعقوب بن حميد بن كاسب ” الذي روى له البخاري رحمهما الله في موضعين : في ” كتاب الصلح ” وفي ” فضل من شهد بدرا” حسبما ذكر ذلك الحافظ بن حجر رحمه الله، وإن كان قد تردد في رواية ذلك عنه أو عن غيره ممن اسمه يعقوب أيضا، ويقوي هذا الاحتمال أني لم أجد رواية شيء عنه في الصحيح في أثناء البحث عن ذلك بواسطة الحاسوب في “موسوعة الحديث الشريف ” فالاحتمال موجود إذا.
ومع هذا فلو تحققت روايته عنه، فإنّ الحديث الذي أخرجه في الصلح تابعه عليه محمد بن الصباح عند مسلم وأبي داود، ولماذا لم تنقم على ابن ماجة، والدارمي _رحمهما الله _ وقد تحققت روايتهما عنه ، ولعل دورهما لم يحن لها بعد .
والذي أخرجه له في “فضل من شهد بدرا” وقع في رواية أبي ذر، وساقه الحافظ بسنده.
أين هذا الإجماع المزعوم المكذوب المفترى في الإجماع على تضعيفه، وابن حجر _ رحمه الله _ في “المقدمة” يقول : مختلف في الاحتجاج به ؟ وهي تحيل عليها وتلهج بها لكن فيما يوافق هواها، ومن قرأ المقدمة في الحقيقة يجدها حربا على هرائها كلّه، وكأنهّا بذلك تبرز الحافظ بن حجر في صورة الطاعن في الصحيح.
وممن لم يضعفّه : ابن عدي إذ قال فيه: لا بأس به وبروايته،، وقال مسلمة بن قاسم: ثقة، وضعفه النسائي وغيره. وقال الحاكم : لم يتكلم فيه أحد بحجة
وما هذه الجرأة على الجزم بأن البخاري رحمه الله تعالى روى عنه ما دام الاحتمال قائما.
وقد ترجح لي بعد هذا الذي كتبته زوال هذا الاحتمال بما قرره ابن حجر في الفتح من أن يعقوب هذا، هو يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي، وهو ثقة، وكان من الحفاظ. قاله ابن حجر في التقريب. فتح الباري (( ج 5 : ص : 355 _ 356 ) ( ج 7: ص : 359 ) طبعة : دار الريان للتراث : 1988 )).
ومع هذا تقول : ويكفي المرء لمعرفة مخازي هذا الرجل _ أخزاها الله _ أنّ أحد الرواة وهو يعقوب بن حميد بن كاسب أجمعوا على تضعيفه وتجريحه وأبى هو إلا أن يروي له.
ونحن نقول : يكفي كل منصف عاقل من هذا الذي ذكرناه وأحلنا عليه أن يعرف مخازيها هي وكذبها البين الصراح.
وكيف يقال أجمعوا على التضعيف أو التجريح، ولا ينظر إلى البخاري إمام الأئمة في التعديل والتجريح في إجماعهم، خصوصا وأنّ كلامه في الرجال حجة يحتج به العلماء الفحول، يقول أحدهم : قال فيه البخاري كذا، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة بقواعد علم الجرح والتعديل. فليس ذا بعشك فادرجي.
سابعا : وأما كذبها على البخاري رحمه الله بما نسبت إليه من تنقيص المرأة، ومحاربة مبدإ الشورى، وتكذيب القرآن الكريم في أن علم الساعة لا يعلمه إلا الله، وكمال هذا الدين، ناهيك عن سبّها وشتمها له _رحمة الله عليه _ فلا أظن مسلما عاقلا يقبل ذلك أو يصدقه.
ونقول : شرح من هذا لأحاديث الصحيح تبنّت في هذا الفهم من شروح الأئمة الأعلام ؟ فليس في شروحهم من ذلك شيء، فيبقى أنّ هذا شرحها هي، فنقول لها ولمثلها : لم يحوج الله المسلمين إلى شرحك أنت ومثلك،فاحتفظي به لنفسك حتى تلقي الله تعالى به في عرصات القيامة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} إلا أن تتوبي فإن الله تواب غفور.
وهي لوازم باطلة ألزمت البخاري _ رحمه الله _ بها في أحاديث بعيدة بعد المشرقين عن تلك اللوازم الباطلة.
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا ما استقل يماني
أي تلازم بين إثبات عقيدة المهدي التي أنكرتها _ وهي ثابته بالتواتر المعنوي _ وبين علم الله وحده بوقت قيام الساعة ؟ هل في إثباتها ما يلزم منه ذلك اللازم الباطل ؟
وأي تلازم بين الإمامة في قريش ومبدإ الشورى ؟
وأي تلازم بين حديث الصحيفة،وكمال هذا الدين ؟
فقد تبين أنّ هذا من كيسها،وزبالة عقلها،وعقول أمثالها،ويكفي كل منصف عاقل أن يقرأ الصحيح، فيجد إثبات ذلك الذي نفته في أحاديث أخرى، فقد رمت البخاري _ رحمه الله _ بالكذب والبهتان، وكفاها إثما وعارا وشنارا أن تبوء بذلك الخزي والإثم والعار.
ثامنا : وأين ما ادعته من انتفاء النسخ في السنة والطّعن في الإمام برواية بعض المنسوخ في صحيحه، وهل هناك منافاة بين منسوخية الحديث، وصحته،وسنيته.
فهو سنة صحيحة منسوخة.فثبوت الحديث وصحته شيء، والنظر إلى حاله عند أخذ الحكم منه، من كونه منسوخا أو مطلقا أو عاما أو مقيدا أو خاصا شيء آخر
ثم إن نفي النسخ عن السنة نفي لأمر واقع فيها لا يدعيه إلا مكابر، وهو هراء لا يكون إلا من متجاهل أوجاهل جهلا مكعبا بأصول الفقه الذي تقرر فيه الإجماع من العلماء على وقوع النسخ في السنة والقرآن، إلا قولا شاذا لأبي مسلم الأصفهاني لا يلتفت إليه، ومن ذكره من العلماء في كتابه فإنما يذكره للتنبيه إلى بطلانه.
وليس كل خلاف جاء معتبرا
إلا خلاف له حظ من النظر
فليرجع من شاء إلى كتب أصول الفقه في ذلك.
دليل ذلك في السنة نفسها : ما رواه مسلم في صحيحه في كتابي الجنائز والأضاحي مرفوعا ” نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا ”
ولسنا نحتاج بعد هذا إلى تعليق على هذا الدليل إلا أن نقول مرة أخرى : ليس ذا بعشك فادرجي.
والدعاوى ما لم تقيموا لها
بينات أهلها أدعياء.
تاسعا : وأما نسبة الألباني _ رحمه الله_ إلى الجرأة على “الصحيح ” والتضعيف فيه فدلّونا على ضعيف له من كتبه اسمه ” ضعيف صحيح البخاري ” كما ألف ” ضعيف سنن ابن ماجة، وأبي داود، والنسائي، والترمذي ” وإذا لم يوجد فدونكم منزلة الصحيحين في قلبه بنص كلامه :
يقول في ” إرواء الغليل “……من أجل ذلك فإني قد جريت في هذا التخريج كغيره على بيان مرتبة كل حديث في أول السطر ثم أتبع ذلك بذكر من خرجه، ثم بالكلام على إسناده تصحيحا أو تضعيفا، وهذا إذا لم يكن في مخرجه الشيخان أو أحدهما، وإلا استغنيت بذلك عن الكلام كما كنت بينته في مقدمتي لتخريج أحاديث “العقيدة الطحاوية”، ومقدمتي على ” مختصر مسلم للمنذري ” ج 1 ص 11 وسيأتي مزيد كلامه في هذا فتنبه إليه.
وليتها إذ اعتمدت في التضعيف “الألباني” _ رحمه الله _ تعتمده في نقض هذيانها في تضعيف حديث ” ناقصات عقل ودين ” الثابت في صحيح الإمام.
إذ يقول في “الإرواء” أيضا :……ويلبسون على الجهال بقولهم : عن السنة غير محفوظة، وإن بعضها ينقض بعضا، ويأتون على ذلك ببعض الأمثلة منها : حديث : خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء. يعني عائشة. حديث موضوع انظر “المنار المنيف” لابن القيم.
يقول رحمه الله : ثم يعارضون به قوله صلى الله عليه وآله وسلم في النساء إنهن ” ناقصات عقل ودين ” ويقولون : انظروا كيف يصف النساء بالنقص في هذا الحديث ثم يأمر بأخذ شطر الدين من عائشة وهي متهمة بالنقص، فإذا ما علم المسلم المتبصر في دينه أن الحديث الأول موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث الآخر صحيح زال التعارض المزعوم أولا: لأنه لا يصح في عقل عاقل _ غير مجنون _ معارضة الحديث الصحيح بالموضوع، وانكشف تلبيسهم وجهلهم، ثم إذا رجع إلى الحديث الآخر الصحيح ثانيا وأخذه بتمامه من مصدره الموثوق به، يتبين له أن النقص المذكور ليس إطلاقه كما يتعمد الدجالون أن يوهموا الناس وإسقاطا منهم للسنة من قلوبهم زعموا، وإنما هو أن المرأة لا تصلي ولا تصوم وهي حائض، وأن شهادتها على النصف من شهادة الرجل كما جاء تفسيره في الحديث نفسه في “صحيح البخاري” وغيره، وهذا هو الشأن على الغالب بين الأحاديث الضعيفة والصحيحة، وطرق شياطين الإنس والجن لإضلال الناس كثيرة متنوعة فهذا يضل بمثل حديث عائشة المذكور آنفا، وآخر بمثل الحديث المتقدم : ” اختلاف أمتي رحمة ” ج 1 ص 10.
ثم إني أقول : وهل وصف المرأة بالنقص في عقلها إلا وصف لها بالكمال في عاطفتها، ووصف للرجل بالنقص في عاطفته لتتم حكمة الله في تربية الأبناء، ولو وجدت نفس العاطفة من كليهما أو الشدة إذن لضاع الأبناء فسبحان من قال في نبيه {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}( النجم : 3 _ 4) وسبحان من أنار قلوب المؤمنين فأبصروا الحق، وأظلم قلوب آخرين فهم في ظلمات الجهل يتخبّطون.
وليس في ذلك كله من النقص المزعوم بالمعنى المفهوم لدى ضعاف العقول ومرضى النفوس شيء، وإنما النقص ممن عدم الدين والمروءة والحياء من الرجال والنساء سواء.
ويطيب لي ههنا أن أذكر قصة لأحد علماء الأزهر مع امرأتين اثنتين جاءتا إليه تحملان شهادة الدكتوراه، قالت إحداهما للشيخ : إن كان النبي قد قال ” النساء ناقصات عقل ودين ” فها أنا ذا وصديقتي قد حصلنا شهادة الدكتوراه، فقال الشيخ : أولئكما زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلموالصحابيات الجليلات، أما أنتما فلا عقل ولا دين.
ثم إننا نقول أيضا من أين لها أنّ الألباني رحمه الله ضعّف حديث نكاح المحرم الثابت في الصحيح، وهل استقر الأمر إلا على تصحيحه له بنص كلامه في أثناء الرد على من يرميه بالطعن في الصحيح بذلك، في شرح “العقيدة الطحاوية ”
يقول………هذا حال هذا المتعصب الهالك، وموقفه من “الصحيحين” الحالك، ومع ذلك، فهو لا يستحيي أن يتظاهر بالغيرة عليهما، والمدافعة عنهما، من أجل حديث واحد لأحدهما، قلنا في إسناده ما قاله أهل الاختصاص فيه دون أن نتجرأ على تضعيف متنه، حتى يتيسر لنا البحث في طرقه، فلما من الله علينا به تبينت لنا صحته والحمد لله تعالى.
يقول رحمه الله : لقد أراد هذا المتعصب أن يظهرنا أمام الناس بمظهر الطاعنين في “صحيح البخاري” وكذا ” مسلم “فإذا بالحقائق تشهد أنه هو الطاعن، مصداقا للمثل السائر ” من حفر لأخيه بئرا وقع فيه ” والمثل الآخر ” من كان بيته من زجاج فلا يرم الناس بالحجارة.ص 41/42
عاشرا : وأما تبنيها لهراء الكوثري في تجريح الإمام العلم، فهل يكون إلا من متجاهل أو جاهل جهلا مكعبا لا مركبا بأبسط قواعد هذا العلم.
كيف يقبل التجريح من رجل ليس أهلا للتجريح ولا التعديل، وهل يساوي في البخاري، بل وتلاميذه وأقرانه في علمهم وحفظهم وتقواهم وورعهم، ولا تراب نعالهم
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذكر جملة مما لا يعتبر التضعيف به ولا التجريح :……وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه أو أعلى قدرا أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر المقدمة ص 546.
ونحن نقول : وأحرى من أجمعت الأمة على عدالته وتلقي كتابه بالقبول، ومن إليه المرجع في التصحيح والتضعيف والتجريح.
وليتها إذ قبلت تضعيف الألباني لبعض ما ضعف، وإن نسبت إليه التضعيف في بعض ذلك زورا وبهتانا كما علمت، ليتها تقبل كلامه في كوثريها عمدتها في تجريح الإمام العلم الجبل، ولكن كما قال الله سبحانه “{ يقولون إن اوتيتم هذا فخذوه وإن لم توتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم}(المائدة : 43).
وهذا كلامه _رحمه الله _عن الكوثري في سياق الرد على أحد تلامذته
……ودعم ذلك بقيامه على طبع بعض كتب الحديث والتعليق عليها، وأحدها من كتب الإمام ابن القيم، ويزين بعضها بالنقل عنه وعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، ولكنه في الوقت نفسه لا يتمالك من النقل عن عدوهما اللدود، وعدو أهل الحديث جميعا، بل والإكثار عنه ألا وهو المدعو زاهد الكوثري، الذي كان _والحق يقال_ على حظ وافر من العلم بالحديث ورجاله، ولكنه مع الأسف كان علمه حجة عليه ووبالا، لأنه لم يزدد به هدى ونورا، لا في الفروع ولا في الأصول، فهو جهمي معطل حنفي هالك في التعصب، شديد الطعن والتحامل على أهل الحديث قاطبة، المتقدمين منهم والمتأخرين.
فهو في العقيدة يتهمهم بالتشبيه والتجسيم، ويلقبهم في مقدمة ” السيف الصقيل” ص 5 بالحشوية السخفاء.
ويقول في كتاب ” التوحيد ” للإمام ابن خزيمة إنه كتاب ” الشرك ” أو يرمي نفس الإمام بأنه مجسم جاهل بأصول الدين.
وفي الفقه : يرميهم بالجمود وقلة الفهم، وأنهم حملة أسفار.
وفي الحديث طعن في نحو ثلاثمائة من الرواة أكثرهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظا، وجماعة من الأئمة الفقهاء، كمالك، والشافعي، وأحمد، ويصرح بأنه لا يثق بأبي الشيخ ابن حبان، ولا بالخطيب البغدادي ونحوهما، ويكذب الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل برواية “المسند” عن أبيه، وكأنه لذلك لا يعتبره من المسانيد التي ينبغي الرجوع إليها، والاعتماد عليها، فيقول في كتابه” الإشفاق على أحكام الطلاق ” ص 23 : مسند أحمد على انفراد من انفرد به ليس من دواوين الصحة أصلا.
ثم قال ص : 24 ومثل مسند أحمد لا يسلم من إقامة السماع والتحديث مقام العنعنة لقلة ضبط من انفرد برواية مثل هذا المسند الضخم.
ثم هو يصف الحافظ العقيلي بقوله : ” المتعصب الخاسر ”
وننبه إلى أنها تبنت تضعيف العقيلي لجملة من الأحاديث في هرائها وها أنت ترى تجريح إمامها في الجرح والتعديل له، فلم تعتبره لأنها وجدت فيه هواها هذا إن اطلعت على ذلك، لكن سهل عليها أن تطلع على تجريحه للبخاري وتتبناه فانظر إلى هذا التناقض البين الواضح إذا.
يقول الألباني رحمه الله : وبالجملة فقلّ من ينجو من الحفاظ المشهورين وكتبهم من غمز ولمز هذا المتعصب الخاسر حقا مثل : ابن عدي في ” كامله “، والآجري في ” شريعته ” وغيرهما.
وهو إلى ذلك يضعّف من الحديث ما اتفقوا على تصحيحه ولو كان مما أخرجه البخاري ومسلم في ” صحيحيهما ” دون علة قادحة فيه، وقد سبق ذكر بعض ما ضعفه منها، وعلى العكس من ذلك فهو يصحح انتصارا لعصبيته المذهبية ما يشهد كل عارف بهذا العلم أنه ضعيف بل موضوع مثل حديث : أبو حنيفة سراج أمتي.إلى غير ذلك من الأمور التي لا مجال لسردها وبسط القول فيها الآن.
وقد رد عليه وفصل القول فيها بطريقة علمية سامية، وبحث منطقي نزيه، العلامة ” عبد الرحمان المعلمي ” في كتابه ” طليعة التنكيل ” ثم في كتابه الفذ العظيم ” التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ” شرح العقيدة الطحاوية ص : 49 _50 _ 51.
وأرجو الرجوع إلى هذا الكتاب للمعلمي لعدم حصولي عليه الآن للنقل منه ، فقد نكل فيه بالكوثري في تأنيبه هذا الذي نقلت منه هذه الكاتبة ما عنونت به لهرائها في تجريح الإمام العلم .
فهذه شهادة محدث العصر على هذا الرجل، ولذلك لا عجب أن لا يسلم منه أمير المؤمنين في الحديث، ومن إليه المرجع في التصحيح والتضعيف والتعديل والتجريح، فتلك شنشنة معروفة من أخرم، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
حادي عشر: وأما مسألة اللفظ وترك أبي حاتم وأبي زرعة للبخاري رحمهم الله بسببها فالجواب عنها من مجموع الفتاوى، والسير للذهبي.
وقبل ذلك ننبه إلى أعظم من ذلك فاتها أن تذكره ولعله لوضوحه وظهور بطلانه لكل أحد، تلكم هي الأكذوبة القبيحة الشنيعة على الإمام أحمد رحمه الله أنه بعث إلى أهل القرية لما مات البخاري رحمه الله أن لا يصلوا عليه
وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يعري هذه الأكذوبة :
وأعظم ما وقعت فتنة “اللفظ” بخراسان، وتعصب فيها على البخاري _ مع جلالته وإمامته _وإن كان الذين قاموا عليه أيضا أئمة أجلاّء، فالبخاري _ رضي الله عنه _ من أجلّ الناس.
وإذا حسن قصدهم، واجتهد هو وهم، أثابه الله وإياهم على حسن القصد والاجتهاد، وإن كان قد وقع منه أو منهم بعض الغلط والخطإ، فالله يغفر لهم كلهم، لكن من الجهّال من لا يدري كيف وقعت الأمور، حتى رأيت بخط بعض الشيوخ الذين لهم علم ودين، يقول : مات البخاري بقرية “خرتنك”، فأرسل أحمد إلى أهل القرية يأمرهم أن لا يصلوا عليه لأجل قوله في مسألة “اللفظ”، وهذا من أبين الكذب على أحمد والبخاري، وكاذبه جاهل بحالهما.
فإنّ البخاري _ رضي الله عنه _ توفي سنة ست وخمسين بعد موت أحمد بخمسة عشر سنة، فإن أحمد توفي سنة إحدى وأربعين، وكان أحمد مكرما للبخاري معظما، وأما تعظيم البخاري وأمثاله لأحمد فأظهر من أن يذكر.
مجموع الفتاوى ج12 ص 208 _ 209.
وفي الصفحة 305 يقول : وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الهذلي وغيره بعد موت أحمد بسنين ولم يتكلم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومن نقل عن أحمد أنه تكلم في البخاري بسوء فقد افترى عليه.
وفي الصفحة : 333 _ 334 يقول : وكذلك أيضا افترى بعض الناس على الإمام البخاري صاحب ” الصحيح ” أنه كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق، وجعلوه من ” اللفظية ” حتى وقع بينه وبين أصحابه مثل : محمد بن يحيى الهذلي، وأبي زرعة وأبي حاتم، وغيرهم بسبب ذلك، وكان في القضية أهواء وظنون، حتى صنف كتاب ” خلق الأفعال ” وذكر فيه ما رواه عن أبي قدامة، عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة.
وذكر فيه ما يوافق ما ذكره في آخر كتابه ” الصحيح ” من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن الله يتكلم بصوت، وينادي بصوت.
وساق في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار ما ليس هذا موضع بسطه، وبين الفرق بين الصوت الذي ينادي الله به وبين الصوت الذي يسمع من العباد، وأن الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من القارئ، وبين ذلك، وأن أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة، والله تعالى بفعله وكلامه غير مخلوق.
يقول الذهبي رحمه الله : وما علمت عصرا من الأعصار سلم أهله من الحسد أو العداوة أو العصبية سوى الأنبياء، والصديقين.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا _رحمة الله عليه _ ص : 213 واختلاف الناس في هذا الباب وغيره كثير منه يكون ” اختلاف تنوع ” مثل أن يقصد هذا حقا فيما يثبته، والآخر يقصد حقا فيما نقضه، وكلاهما صادق، لكن يظنان أن بينهما نزاعا معنويا، ولا يكون الأمر كذلك، وكثير من النزاع يعود إلى إطلاقات لفظية، لا إلى معان عقلية، وأحسن الناس طريقة من كان إطلاقه موافقا للإطلاقات الشرعية والمعاني التي يقصدها معان صحيحة تطابق الشرع، والعقل.
قلت : نعم، يعاب العدول عن تلك الطريقة في غير أوقات الفتن والمحن، ومضايق المناظرات.
وفي الصفحة : 265 يقول : وقد بين أئمة السنة والعلم كالإمام أحمد والبخاري صاحب ” الصحيح ” في كتابه ” خلق الأفعال ” وغيرهما من أئمة السنة من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين.
وماذا تنقم هذه الكاتبة على الجبل العلم في مسألة خلق أفعال العباد، وهل ذاك إلا من الكذب عليه وإلزامه ما لا يلزم، وهذا مقام خلق أفعال العباد وذاك مقام أن للعبد كسبا واختيارا في هذه الأفعال، وهل مذهبه إلا مذهب الحق والصواب مذهب أهل السنة والجماعة.
وأين زعمها أن ابن تيمية رحمه الله رد عليه وأبطله وهذا كلامه من مجموع الفتاوى ثناء على البخاري في كتابه ” خلق أفعال العباد “، وهذا من الخبط والخلط الذي يصيب أهل العماية والجهالة، فيهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، ويقوّلون الناس ما لا يقولون، لانطماس بصائرهم وظلمة عقولهم، وأما أهل الحق فهم على نور من ربهم بتقواهم لرب العالمين.
ويقول الذهبي رحمه الله في ” السير ” ج 10 ص 313
قلت : المسألة هي : أن “اللفظ مخلوق” سئل عنها البخاري، فوقف فيها، فلما وقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة، واستدل لذلك، فهم منه الهذلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره.
وقد قال البخاري في الحكاية التي رواها ” غنجار ” في “تاريخه ”
حدثنا خلف بن محمد بن إسماعيل، سمعت أبا عمرو وأحمد بن نصر النيسابوري الخفاف ببخارى يقول : كنا يوما عند أبي إسحاق القيسي محمد بن نصر سمعته يقول : من زعم أني قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله. فقلت أبا عبد الله، قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه، فقال : ليس إلا ما أقول.
قال أبو عمرو الخفاف : فأتيت البخاري، فناظرته في شيء من الأحاديث حتى طابت نفسه فقلت : يا أبا عبد الله، هاهنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة، فقال: يا أبا عمرو، احفظ ما أقول لك : من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت : أفعال العباد مخلوقة.
فهذا كلامه صريح في نفي هذا الزور المنسوب إليه، ولكن يأبى أهل الباطل إلا الاستمساك بالأوهام والشبهات. نسأل الله السلامة والعافية ج10ص315.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في ” الجرح والتعديل ” قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمس ومائتين، وسمع منه أبي وأبو زرعة، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى الهذلي أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق.
يقول الذهبي رحمه الله : قلت : إن تركا حديثه أولم يتركاه، البخاري ثقة مأمون، محتج به في العالم.
وأعود فأقول : وقد سبق أن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وإن كان الذين قاموا عليه أئمة أجلاء ، فالبخاري _ رضي الله عنه _ من أجلة الناس.
وقد قال ابن حجر رحمه الله في ما سبق أيضا فيما لا يعتد الجرح به ولا التضعيف……وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه أو أعلى قدرا أو أعرف بالحديث، فكل هذا لا يعتبر به.
ولسنا ننسب بهذا الإمامين الجليلين أبا حاتم وأبا زرعة إلى الطعن في الإمام،كلا فهذه شهادتهما في البخاري رحمة الله عليهم من مقدمة الفتح، خصوصا وأن الذهبي رحمه الله تردد فيما نسب إليهما بقوله : إن تركا حديثه أو لم يتركاه :
قال أبو حاتم : لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل، ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه.
أما أبو زرعة فقال الحافظ في مقدمة الفتح أيضا : قال محمد بن حريث سألت أبا زرعة عن أبي لهيعة، فقال لي تركه أبو عبد الله يعني البخاري رحمهما الله.
قال العجلي : ورأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إليه، وكان أمة دينا فاضلا
وسئل الدارمي عن حديث : وقيل له : إن البخاري صححه، فقال : محمد بن إسماعيل أبصر مني. المقدمة ص 671
ولسنا بحاجة إلى تزكيته ولا إلى سرد أقوال علماء الأمة فيه، فهو إجماع الأمة بعلمائها وعامتها سلفا وخلفا على عدالته،وتلقي كتابه بالقبول، وما ضر شمس الضحى أن لا يراها من ليس ذا بصر.وهو مع هذا عالم أجمعت الأمة على عدالته، وليس ملكا، ولا نبيا، ولا رسولا.
فقل للعيون الرمد : للشمس أعين
سواك تراها في مغيب ومطلع
ولقد ثبت عنه في ترجمته _ رحمه الله _ أنه لا يضع حديثا في كتابه إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين لله، وخرج يوما لأخذ حديث عن رجل قد انفلتت دابته من يده فجعل يوهمها العلف في وعاء فلما رآه البخاري قال له : أمعك شعير ؟ فقال : لا. فقال: لا آخذ الحديث ممن يكذب على البهائم، فرجع، وانتقى أحاديث صحيحه من ستمائة ألف حديث.
فهل بعد هذا البيان من التباس للباطل بالحق، والشبهات بالحجة،والكذب بالصدق، والخيانة بالأمانة إلا على مرضى النفوس والعقول المستكبرين عن الحق ممن قال الله فيهم سبحانه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }(النمل : 14).
ومن قال فيهم سبحانه : {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين }(البقرة : 144، 145، 146).
وصدق من قال من السلف رحمة الله عليه :من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى، نسأل الله السلامة والعافية.
وإننا نحذر هؤلاء سخط الله وعقابه أن يحل بهم في الدنيا قبل الآخرة ألا فليتوبوا وليعلنوا توبتهم فإن الله تعالى تائب على عبده ما لم يغرغر وما لم تطلع الشمس من مغربها
قال محمد بن أبي حاتم : وسمعته _ يعني البخاري رحمه الله _ يقول : لم يكن يتعرض لنا قط أحد من أفناء الناس إلا رمي بقارعة ولم يسلم، وكلما حدث الجهالأنفسهم أن يمكروا بنا رأيت من ليلتي في المنام نارا توقد ثم تطفأ من غير أن ينتفع بها، فأتأول قوله تعالى { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}(المائدة : 24 ).
أن علينا أن نتعلم ديننا وأن نقرأ تراجم أئمتنا وعلمائنا حتى لا يجد صاحب شبهة وهوى سبيلا أبدا إلى إضلالنا، ولا إساءة الظن بأئمتنا، ويكفي في ذلك الرجوع إلى “مقدمة فتح الباري : هدي الساري” للحافظ بن حجر، بالنسبة لهذه الشبهات، و”سير أعلام النبلاء” للذهبي، و”التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ” للمعلمي رحمة الله عليهم جميعا.
< أبو الحسن محمد أكجيم