قالها الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد انسحاب الأحزاب خاسئين مذمومين مدحورين يائسين من فَلِّ حزب الله ورسوله وحزب المومنين الصادقين، حيث سلّط الله تعالى على كُلِّ الحاقدين الذين تنادوْا من كل فَجِّ كُفْرِيٍّ عميق لاستئصال الإسلام والمسلمين، في الوقت الذي لم يكن للمسلمين مُسْتَنَدٌ لا من القوة الكبرى ولا من القوة الصغرى تسلحهم وتزودهم، فقد كانوا حفاة عراة جياعا، ولكنهم كانوا أكثر إيمانا بقوة العزيز الجبار المتعال الذي بيده الأمر كله: أمر المومنين الصادقين، وأمر المنافقين المرتعدين من البشر، وأمر الحاقدين من كبار المجرمين، فأطعم العزيز الرحيم عبادَهُ وآمنهم من الخوف وثبت أقدامهم، وبارك في حفنات تمرهم، وحفنات شعيرهم فشبعوا بعد أن لم يذوقوا الطعام ذَواقا أكثر من ثلاثة أيام، ثم أخيرا كسر شوكة عدوهم بالريح التي كفأت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وبالبَرْد الذي أرعد أكبادهم، وبالرعب الذي زلزل كيانهم، فباتوا وأصبحوا ولا أثر لهم، تلك هي القوة الإلهية التي تغلب ولا تُغْلَبُ، وذلك هو الدرس الذي وعاه المسلمون الصادقون الذين كانوا يتحركون على عين الله تعالى، فما أعاروا اهتماما للقوة الكفرية المتمالئة عليهم ما داموا في أعين الله عز وجل، لأنهم عباده الذين ما غيروا ولا بدلوا تبديلا، ولذلك قال لهم ربهم ومولاهم، لهم أولا، ولكل مومن يقتفي أثرهم إلى يوم الدين ثانيا:{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المومنون وزلزلوا زلزالا شديدا}(الأحزاب : 8، 11).
لقد جاءت غزوة الأحزاب لتُدَرِّبَ المسلمين على مواجهة الأعداء جميعا متألبين، بعد أن دربهم الله تعالى على مواجهة كل عدو على انفراد، وليقول للمسلمين -سابقا ولاحقا- أنا ر بكم الذي أغْلِب ولا أُغْلَبُ، وأقْهَرُ ولا أُقْهَر ما دمتم معتصمين بحبلي، ناصرين لأمري، متطهرين من نوازع الهوى وحب العاجلة الفانية.
وتحل ذكرى مولدك يا رسول الله والمسلمون مطوقون في كل بقاع المعمور، وتحصى عليهم أنفاسهم وتوجَّه إليهم أشنع التُّهم، ويُستَهزأ بهم بالواضح والمرموز، ويغتالون فكريا وإعلاميا وجسديا، ولا أحد من أحزاب النفاق ودُوَله يرفع عقيرته بالاستنكار، ولكن لنا الأُسوة فيك يا رسول الله، حيث قلت بعد انسحاب الأحزاب >الآن تغزون ولا تغزون< أي أن المبادرة أصبحت في يد جمع الإسلام، وركب الإيمان، وهي قراءة نبوية نورانية لمستقبل الإسلام والمسلمين، وكذلك كان لمن عرف سيرتك وقرأها بإيمان وإمعان.
واقتداء بك يا حبيبنا وأسوتنا نقدر أن نقول: إن المستقبل للإسلام والمسلمين بعد أن نفضت أحزاب الكفر ودوله – على اختلاف ألسنتهم ومِلَلِهِمْ – آخر ما في جعبهم من السهام الموجهة لنحور المسلمين، وبعد أن اعتلوا قمة العتو والطغيان، فماذا ينتظر من مُقْتَعد القمة على التَّكَوُّر والانحدار، فأبشروا يا مسلمون و بشروا، واعملوا وأمِّلوا، فالفرج قريب، ولكن بشرط أن تقتدوا بأولئك الرعيل الذي شهد الله عز وجل له بكمال الإيمان والتسليم في أدق اللحظات وأحرج المواقف وأصعبها على النفوس. قال الله تعالى فيهم: {ولما رأى المومنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}(الأحزاب : 21). لقد جرب المسلمون تاريخيا حروب المجوس التتريين، والصليبيين الحاقدين، والماسونيين الموتورين، والمخرِّفين من المسلمين الواهمين، والآن جاء النظام العالمي لينيخ بكَلْكَله على العالم كله، ويقول له بصريح العبارة: إما أن تصنف نفسك معي أو مع الحق الذي جاء به الإسلام. نأمل ألا تأتي ذكريات مولدك يا حبيبنا يا رسول الله إلا وقد ظهر من دول الإسلام وأحزابه من يقول: نحن مع الحق، ندور معه أينما دار، وننصره حيث كان، ولنا في قول مومن آل فرعون خير عبرة، حيث قال لأكبر طاغية في عصره: {يا قَوْمِ لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا}(غافر : 28).