أثر الإيمان في الأمان النفسي


يقول الدكتور يوسف القرضاوي : “أجد قضية الإيمان هي أعظم قضية مصيرية بالنظر إلى الإنسان، إنها السعادة الأبد أو شقوته، إنها لجنة أبداً أو لنار أبداً. وقد فكر الكثيرون من أولي الألباب (في قضية الإيمان) وانتهى كل منهم إلى اثبات العقيدة في الله بطريقه الخاص فمنهم من استند إلى صوت الفطرة في أعماقه {أفي الله شك، فاطر السماوات والأرض}(ابراهيم : 10)، {فطرةالله التي فطر الناس عليها}(الروم : 30) ومنهم من اعتمد على مبدإ السببية.. ومنهم من ناقش المسألة مناقشة حسابية رياضية، فانتهى  إلى أن الأضمن لحياته وما بعد حياته أن يؤمن بالله وبالآخرة والبعث والجزاء”(1).

فالإنسان إذا أمن بالله سبحانه وتعالى ولم يربح، فإنه لن يخسر شيئا مادمنا نتحدث عن الإيمان خارج دائرة الإسلام.

أما إذا تحدثنا عنه من داخل دائرة الإسلام فإن الإيمان بالله يحمل صاحبه إلى ربح الدنيا والآخرة، وإن لم يؤمن به فإنه يخسر الحياتين معا،.يقول سبحانه وتعالى {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة}(النساء : 134) ،ويقول أيضا : {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير}(النحل : 30).

فما دام هذا الانسان المؤمن يقوم بما أمره الله سبحانه وتعالى من عبادات، فإنه “يزكي نفسه ويرقي روحه”(2) وإذا انتهى من فعل ما حرمه الله عليه فإنه “يصون عقله وخلقه ونفسه وماله وعرضه ونسله، يقول سبحانه وتعالى {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}(الأعراف : 157)”.

فالإيمان عموما ضروري لكل من الفرد والمجتمع، فبه يطمئن الفرد ويسعد، وباطمئنانه وسعادته يستقر المجتمع ويتماسك، والإيمان يزكي نفس الفرد وبالنفس الزكية يرتفع المجتمع ويرقى. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “إن المؤمن لم يخسر شيئا بعبادة الله سبحانه وتعالى واتقائه ماحرمه الله عليه، وإنما ربح الهدى والاستقامة على الحق والثبات على الخير، والاستعلاء على الشهوات، وربح بعد ذلك هدوء النفس وطمأنينة الحياة”(2).

فما هو أثر الإيمان، إذن، في طمأنينة النفس وآمانها؟

إذا بحثنا عن محل الإيمان وجدنا أنه القلب، وذلك انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم : >الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل<(3) ويؤكد ذلك ما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {إنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}، ولكن، حين اجرت عملية زرع قلب اصطناعي، أو قلب من شخص آخر لمستأصل القلب، فإن طباع هذا الشخص الذي أجريت له العملية لم تتغير وكذلك إيمانه، من هنا نستنتج أن القلب الوارد سواء في الحديث الشريف أو الآية الكريمة ليس هو القلب العضو، القلب المضغة، بل هو قلب حسي.

ومن المعلوم أن للقلب علاقة وطيدة بالنفس وأحيانا يكون القلب والنفس في مكان واحد، فنتحث عن القلب ونعني به النفس، إذا كنا بصدد التحدث عن الاطمئنان والخوف والراحة والسعادة والشقاء وغير ذلك.

والملاحظ في هذا العصر أن أكثر الأمراض شيوعا هي أمراض القلوب، فقد استطاع الانسان، القضاء على كثير من أمراض الجسم، بفضل التقدم العلمي الحاصل في ميدان الطب والصيدلة، لكن أمراض القلوب استفحلت وشاعت بين الناس إلا من رحم ربك، وقليل ما هم؛ ذلك أن أمراض القلوب غير قابلة للفحص بالوسائل العلمية الحديثة كما تفحص أمراض الأجسام لكن آثارها تبدو للعيان في شيوع الأمراض النفسية التي فصلها الشيخ كامل محمد محمد عويضة في كتابه “مدخل إلى علم النفس” على الشكل التالي :

الهستريا، عصاب الوسواس، عصاب القلب، المخاوف الشاذة ثم عصاب الصدمات؛ وهاته الأمراض النفسية لا يمكن أن تنشأ عبثا، بل لابد لها من أسباب كانت وراء ظهورها كأن يكون السبب اجتماعيا أو اقتصاديا أو صحيا أو غيره، ويمكن أن نلخص كل الأسباب التي تؤدي إلى الأمراض النفسية في سبب واحد هو “الابتلاء”، الذي به يوزن إيمان الفرد، فكلما كان إيمان الفرد قويا إلا وازدادت طاقته في التحمل والصبر على هذا البلاء، وفي هذا الموضوع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : >عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إذا أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإذا أصابته ضراء صبرفكان خيراً له<(رواه مسلم).

يقول الدكتور يوسف القرضاوي : “ولاغرو أن نجد الانتحار أكثر ما يكون في البيئات التي ضعف دينها أو فقدته فإن لم يكن الانتحار فهو الألم القاتل والجزع الهالع والكآبة الحزينة والحزن الكئيب والحياة التي خلت من معنى الحياة”(4). فهذا الانسان الذي يعيش فراغا روحيا لم يتذوق حلاوة الإيمان فينعم بالأمان والاطمئنان بعكس المؤمن الذي هو أصبر الناس على البلاء وأثبتهم في الشدائدوأكثرهم طمأنينة وسكينة وذلك لأنه يعرف من أين أتى ولماذا أتى وإلى أين سيذهب؟ فهو يعرف بأن الدنيا فانية وأن نعيمها فان، فيعمل من أجل الفوز بنعيم لاينفذ وسعادة خالدة. يقول سبحانه وتعالى : {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى}(النساء : 77)، ويقول أيضا : {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}(آل عمران : 185) وهو يعرف أنه في هذه الدنيا من أجل الاختبار الذي لا يكون إلا بالابتلاء، يقول سبحانه : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه}(الانسان : 2) مما يجعله أكثر إيمانا بالقضاء والقدر. يقول تعالى : {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسهم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير}(الحديد : 22).

فالقلب -إن صح التعبير- صحيح بالإيمان عليل بالذنوب والمعاصي، يقول الإمام ابن قيم الجوزية : “الذنب إما أن يميت القلب أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته ولابد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي : الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدّين وغلبة الرجال”(5).

ويقول أيضا : “ومن عقوبتها (أي المعاصي) ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفا مرعبا، فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله، انقلبت المخاوف في حقه أمنا، ومن عصاه انقلت مأمنه مخاوف”(6).

ومن عقوبتها أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته، إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضا معلولا، لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها، ولا دواء لها إلا تركها، وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تُعطى مُناها حتى تصل إلىمولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها، فهواها مرضها، وشفاها مخالفته، فإن استحكم المرض قتل أو كاد، كما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه،.. ولا تحسب أن قوله تعالى {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم}(الانفطار : 14) مقصور على نعيم الآخرة وجميعها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، -أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار- فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر، وإعراضه عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله، وانقطاعه عن الله، بكل واد منه شعبة؟”(7).

خاتمة :

إن خير ما أختم به قول الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية في كتابه “مدارج السالكين” : >في القلب شعث لا يلمه إلا الاقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لايذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والقرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفؤها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقته الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا تسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدقه الاخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسد تلك الفاقة أبدا<(8).

فالمؤمن إذن لا يحتاج إلى طبيب نفسي فهو طبيب نفسه، وإنما يحتاج إلى الإيمان الحقيقي بالله تعالى.

نجية الصديق

——————

(1) الإيمان والحياة ص 6.

(2) الإيمان والحياة ص 7.

(3) >ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحن نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل<(رواه البخاري).

(4) الإيمان و الحياة ص : 162.

(5) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص : 72.

(6) نفسه، ص : 74.

(7) الجواب الكافي لمن سأل عن ا لدواء الشافي  لابن القيم، ص : 75 بتصرف.

(8) نقلا عن الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه “الإيمان والحياة” ص 78.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>