قال تعالى:{أفرايت إن متعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}(الشعراء: 205-207).
كثيرا ما تحدث القرآن عن الدنيا وحقيقتها، مبينا أنها {لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث اعجب الكفار – أي الزراع – نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما}(الحديد 20). وأنها {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح، و كان الله على كل شيء مقتدرا} الكهف 44، وأنها {دار الغرور}، و{متاع قليل} يتمتع به الناس زمنا يسيرا.
هذه الدنيا صورها النبي بجدي صغير أسَكَّ ميت، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفيه فمر بجدي أسك ـالأسك : صغير الأذنين- ميت، فتناوله فأخذ بأذنيه، ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال : أتحبون أنه لكم؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال : فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم<(أخرجه مسلم)، وأخبر أنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ! ولكنها لا تساوي ذلك.
ومع هذا، فإن كثيرا من الناس في هذه الدنيا يرون أنها شيء له قيمة وأنهم لم يخلقوا الشيء سوى التمتع بما لذ وطاب من حلال أو حرام، فهم {يتمتعون وياكلون كما تأكل الأنعام} لا يهمهم أن يكونوا ممن يقال لهم يوم القيامة وهم بين يدي الله، وقد مضت الدنيا بمتعها وملذاتها وشهواتها،{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}(الأحقاق : 19). غير منتبهين لقول الله تعالى في شأن الذين لا يعرفونمن الدنيا إلا متعها الشيطانية، وملذاتها المحرمة {نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} ولا آبهين بقول الحق جل في علاه{ قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا}! وقد كثر هذا النوع من الناس في بلادنا الإسلامية في هذه الأزمنة العجاف، ولا حول ولا قوة إلا بالله كثر الذين سكروا بحب الدنيا حتى الثمالة، قال يحيى بن معاذ : >الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها فلا يفيق إلا في عسكر الموتى نادما بين الخاسرين<، وأصبحنا نرى الذين لا يعيشون إلا لشهواتهم صباح مساء، ونلقاهم بكرة وعشياً، و قد زين لهم الشيطان أعمالهم، وأجلب عليهم بخيله ورَجْله، وشاركهم في الأموال والأولاد، ومناهم بأن نعيم الدنيا لن يزول، ووعدهم بإدامة حال التمتع، وأنساهم بل حال بينهم وبين أن يقرؤوا أو يسمعوا قول المولى الكريم سبحانه في كتابه المبين {أفرايت إن متعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} فحين يأتي أمر الله ، وتقوم قيامة هؤلاء ينزل بهم العقاب الذي يستحقون، وينالهم العذاب ا لذي لم يكونوا يتوقعون، ووقتئذ لن يغني عنهم تمتعهم في الدنيا كثيرا ولا قليلا، لن تنفعهم ليالي ا لفنادق الحمراء بسهراتها وخمورها ومنكراتها… لن تنفعهم شواطئ العار بعريها و فواحشها ومحرماتها، لن تنفعهم كازينوهات القمار والخراب، …. لن يفيدهم شيء من ذلك، وحينها سيندمون ولات حين مندم. بل على العكس من ذلك، ستشهد عليهم تلك الأماكن، وتلك المتع، وتلك الأزمنة بما كان فيها من منكرات بالجملة، فينتقم الله منهم أشد انتقام، والصالحون على عكس أولئك تماما، كل شيء عندهم من الحلال، وبمقدار، لأن قوله تعالى: {أفرايت إن متعناهم سنين….} يجعلهم يحسبون للتمتع في هذه الدنيا ألف حساب وحساب.
ومن المواقف العظيمة مع هذه الآية الكريمة موقف الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ {أفرايت إن متعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} ثم يبكي و يقول :
نهــــارك يــــــــا مغرور سهـــو وغفلة
وليلك نــــــوم والـــردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حـــــازم
ولا أنت فــي النوام ناج فسالم
تســــــــر بمــــا يفنى وتفرح بالمنى
كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم(ü)
فهل نعي نحن ما وعاه عمر؟. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك
امحمد العمراوي
—————–
(ü) الجامع لأحكام
القرآن : 141/13.