تمر القضية الفلسطينية بمرحلة حرجة لا تعادلها إلا مرحلة مجازر صبرا وشاتيلا وقبلها مجازر دير ياسين و… في ظل نظام عربي متفكك بشكل لم يسبق له مثيل خلال الفترة المعاصرة، نظام صُفع من قبل اليهود قبل أن يفيق من نشوة “إنجازات قمة بيروت الأخيرة” صفع باجتياح شامل لأراضي الحكم الذاتي. في المقابل ظلت المقاومة صابرة ومحتسبة تهز أركان الكيان الصهيوني بعملياتها الجريئة إيماناً بنصر الله الموعود وزوال دولة بني إسرائيل. ومواكبة من المحجة لهذه التطورات تنشر -عبر حلقات- كتاب الشيخ سفر الحوالي “يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟!” الذي يحمل بشرى للمسلمين المجاهدين في كل مكان.
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فهذا الكتيب يحوي بشرى للمستضعفين في الأرض المحتلة خاصة وللمسلمين عامة.
ولكنه لم يكتب ليبشرهم فإن في كتاب الله وسنة رسوله (من المبشرات الكثير، وما عدا ذلك منـها لـه حدوده وضوابطه، فالمضمون إذن لا يؤسس عقيدة للمسلمين -كما قد يظن بعض القراء من أهل الكتاب والمسلمين وغيرهم- وإنما كتب ليختطّ أسلوباً في التعامل مع الأسس الفكرية لعدو الإنسانية اللدود “الصهيونية : بوجهيها اليهودي والأصولي النصراني” ذلك العدو الذي أشغل الدنيا وملأ الفضاء والورق بالحديث عن النبوءات الكتابية -لاسيما بعد الانتفاضة الأخيرة-.
ودراسة النبوءات هي أحد مواد البحث في الدراسات المستقبلية إلا أن النبوءات كالأفكار منها الصحيح ومنها الزائف، ومن حق القارئ العالمي أن يجد الرأي الآخر في هذا الموضوع الخطير، ومن حق القارئ المسلم أن يطالب باستدعاء الاحتياطي في هذه المعركة الطويلة الشرسة، والاحتياطي هنا هو الدراسة الموضوعية للأصول العقدية للعدو ولنفسيته وسلوكه من خلال مصادره وتراثه التي هي عماد روحه المعنوي وإيمانه بقضيته.
وحين نفعل ذلك فإننا في الحقيقة لا نأتي بجديد وإنما هو امتثال للمنهج القرآني الذي علمنا الرجوع إلى المصادر الكتابية لإقامة الحجة وإلزام المفتري :
{قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}.
مثلما علمنا أنهم كتموا الحق وألبسوه بالباطل وهم يعلمون.
وإذا كانت عدالة القضية هي أساس الروح المعنوية للمقاتل فإن التوراة لا تدل فحسب على أن قضية الجندي الصهيوني غير عادلة، بل تدل على أن من الواجب عليه أن يقاتل في الصف المقابل، كما تفرض على المستوطن أن يعلم أن قدومه إلى هذه الأرض إنما هو لاستنـزال عقوبة الله وإحلال غضبه عليه، فلا أقل من أن يرحل ! وإن كان الأحب إلينا أن يهتدي لنور الله ويصبح أخاً لنا في الإسلام الذي هو ملة إبراهيم (ويشاركنا نعمة الإيمان بكل كتب الله ورسله بلا تفريق بين أحد منهم.
ولا ينبغي أن ينتظر (يوم الغضب) لكي يرحل أو يؤمن فربما ضاعت الفرصة العظمى قبل ذلك اليوم أو فيه.
إنني أنصح كل يهودي في أرضنا المحتلة ألا يدع التوراة حكراً على محترفي الكهانة، الذين يحصلون على إعفاء مجاني من الخدمة العسكرية بينما هو يقدم نفسه من أجلها وأجلهم، إنني أنصحه أن يقرأها ولكن بعقله ووعيه لا بشروحاتهم وتأويلاتهم وسيرى الحقيقة التي لابد للعالم كله أن يراها عما قريب !!.
وليعلم أنه مهما اعتدى علينا وقتل أطفالنا وأحرق مزارعنا وأفسد علينا حياتنا فإننا لن نعامله إلا بما شرع الله لا بما تشتهي أنفسنا. وأننا لا نريد لـه ولا لأحد من البشر إلا الفوز برضى الله والسعادة في الدنيا والآخرة.
أما الحساب الكامل والقصاص العادل فإنما يكون يوم القيامة بين يدي الله الذي سيحاسبنا جميعاً على ما عملنا من خير أو شر وهناك لا تنفع الدعاوى :{ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد لـه من دون الله ولياً ولا نصيراً}.
إنها كلمة سواء نلتزم بها من طرف واحد ونأمل أن يكون لدى الطرف الآخر من الشجاعة ما يجعله يلتزم بها أو يحاول…
بعد بضع سنين قليلة في عمر الزمن لكنها طويلة ثقيلة في ليل القهر واليأس ما الذي حدث؟ القلوب واجفة، والأبصار مشدودة، والأنفاس لاهثة، عند كل إشارة إلى خبر عاجل أو حدث طاريء، والتساؤلات على كل شفة :
أين..؟ من..؟ كم..؟ يهود..! أمريكان..! انتفاضة شهداء…
المشاهد تتوالى في الأذهان أكثر مما في هذه الفضائيات المتطورة :-
تهاوي أوراق المفاوضات واحتراقها في لهب الغضب وجحيم القهر.
خزي راعي السلام الذي يعاقب الحملان الوديعة كلما هاجمتها الذئاب الشرسة.
ذهول أصحاب السيوف الخشبية الذين كلما داهمهم العدو هرعوا يحدون أطرافها على مبارد من الثلج.
انطلاقة مقلاع داود الذي نسجته الأيدي المغلولة، ووقوفه في مواجهة صواريخ جالوت.
عربات عسكرية تتراجع أمام حجارة، ورجل واحد يقاوم مئات الجنود المدججين بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الأمريكية.
وحشية إسرائيل التي فضحت أصدقاءها الموالين، وأحرجت أخدانها المتسترين، وقذفت بالمترددين إلى صفوف الأعداء الصرحاء.
إجماع إسلامي لا نظير له من قبل على أن الحل هو الجهاد!!
ذلك ما نطق به الرؤساء والعلماء والمفكرون الاستراتيجيون والقادة الشعبيون والخطباء والعامة الأميون الرجال والنساء والأطفال.
الكل اجتمعوا على هذه الكلمة التي ما وقرت في الأذن إلا ونفذت إلى أعماق القلب ثم تتبعها تساؤلات : كيف..؟ ومن أين..؟ ومع من..؟ ومتى..؟ وهل الحكام…؟ وهل الأمريكان…؟
شيخ أزهري رسمي يصرخ -في أكثر الفضائيات صخباً وأوسعها انتشاراً- لا يجدي مع اليهود إلا قاعدة : {اقتلوهم حيث ثقفتموهم}.
ويسأله المذيع : ولكن يا شيخ هل تعني القتلفعلاً (أي هل تعي ما تقول ؟) وهل الأزهر معك؟ ويأتي الجواب صريحاً بالإيجاب.
غضب عارم في كل مكان، وأساليب جديدة في الرفض ومحاولات جديدة للحل، فما الذي حدث ولماذا ؟
بعد متاهة طويلة من المفاوضات العقيمة، واللقاءات الفارغة المضمون ظهر مفهوم “السلام” عند اليهود على حقيقته، وولدت الأزمة الجديدة بين تفاهة تنازل ” الحمائم ” وعنف معارضة “الصقور” في حين كان المحاور الآخر كالشاة العائرة بين الذئبين !!
(في إسرائيل صقور وحمائم) ذلك ما قيل لنا منذ رحلة السادات المشؤومة !!
وصدَّقه بعضنا لأن المعهود في خلق الله كلهم سواء الأسرة، القبيلة، الدولة، أن يكون فيهم طرفا نقيض في أي قضية !!
لكن ليس في هذه الدنيا طرفا خلافٍ أغرب وأعجب من اليهود، فأنت قد تسمع تصريحات أو تقرأ بيانات لا تستطيع أن تحكم على قائلها بأنه من الحمائم أو من الصقور إلا من اسمه أو حزبه !!!
فحين تسمع زعيمين يهوديين -أحدهما سياسي والآخر كاهن- يتوعدان الفلسطينيين ويرفضان إعادة الانتشار فالمتبادر إلى فهمك أنهما من حزب الصقور، لكنك حين تعرف من هما ؟ تعلم أنهما من المحسوبين على الحمائم.
وحين تسمع أحد الصقور ينادي بالإبادة التامة للفلسطينيين فاعلم أن الحمامة لا تخالفه إلا في الطريقة والوقت !!
وحضور مدريد أو أوسلو أو معسكر داود الثانية لا يدل على أن الحاضرين حمائم، بل إنما يحضر من يصادف أن يكون في السلطة حينئذ من هؤلاء أو هؤلاء.
أسلوب غريب لا نظير له في سياسات خلق الله الآخرين. فالمنطق اليهودي يفترض أن يكون التنافس بين من يجعلونه صقراً ومن يسمونه حمامة على التشدد والمغالاة والالتواء والمماطلة. فهما متعارضان لكنهما متوازيان، وليسا وجهين لعملة واحدة فقط، بل كل منهما يصلح وجهاً لكل جهة.
ورحم الله القائل :
إن اليهود هم اليهود فلا صقور ولا حمائم
العلة قائمة دائمة في حال الحربوحال السلم، في حال الحكومة وحال المعارضة، إنها العقيدة اليهودية والنفسية اليهودية التي لم تفقد خصائصها منذ قديم الزمان بشهادة أسفار التوراة المجموعة على مدى قرون متعاقبة -كما سنرى-.
فالحمائم تتحايل وتماطل من أجل التنازل عن شيء أو شبه شيء، والصقور تجادل وتناضل لكي لا يتم التنازل عن شيء، وبين تفاهة التنازل وعنف المعارضة انكشفت تلك الطبيعة (طبيعة النفسية اليهودية والعقيدة اليهودية) فتفجرت الأزمة.
أولاً : التنازل
بعد سلسلة طويلة ومعقدة من المفاوضات، والوساطات والخلافات الإجرائية والمماحكات الجدلية، وافق باراك أو كاد يوافق على مشروع غريب لتقسيم المسجد الأقصى، لكنه يليق بالعقلية اليهودية الملتوية، وهو أن يكون التقسيم أفقياً على ثلاث مستويات :
1- المسجد والساحات.
2- ما تحت المسجد والساحات من الأرض.
3- ما فوق ذلك من الجو.
وأن تكون إسرائيل مسيطرة تماماً على القسمالأرضي كله، حيث يحتمل وجود الهيكل المزعوم، وكذلك تسيطر على الجو -وهذا لا يحتاج لاشتراط فهي وحدها التي تملك المروحيات والطائرات والفلسطينيون محرم عليهم ذلك مطلقاً- وينحشر نصيب السلطة العرفاتية بينهما. على أن يكون عبارة عن صلاحية وظيفية أو (إشراف وظيفي) على المسجد والساحات، وهناك احتمال بنصر رمزي للسلطة يتمثل في رفع العلم الفلسطيني على هذه المساحة المحدودة من المدينة المقدسة.
ثانياً : المعارضة
هبت المعارضة الدينية والحزبية في وجه باراك، ونددت بهذا التنازل الرخيص، وضجت جمعيات ومؤسسات الهيكل -وهي أكثر من اثنتي عشرة جمعية أو مؤسسة- بالاحتجاج وتوعدت باراك والمسجد الأقصى والفلسطينيين جميعاً بالهلاك والتدمير.
ومما زاد الموقف تأزماً أن المفاوضات وقعت في موسم الصوم قريباً من يوم الغفران، وقريباً من ذكرى يوم خراب الهيكل على يد “تيتس” الروماني.
ومن هنا ربط المعارضون بين تيتس المجرم وباراك الخائن، وقال أحد الحاخامات :
((لا نبكي في هذا الذكرى خراب الهيكل قبل ألفي عام بل نبكي خرابه اليوم)).
وتم إنقاذ الموقف على يد السفاح الشهير “شارون ” -صاحب صبرا وشاتيلا- وكانت زيارته المشؤومة للمسجد الأقصى، فأجهزت على المشروع أو أجلته إلى حين..!!
-بدون أي شك- كانت زيارة شارون مدبرة أو معروفة لدى الحكومة اليهودية فهي التي انتدبت ألفي جندي لحراسته، ولدى السلطة العرفاتية حيث كان عرفات يراهن بردة الفعل الشعبية التي كان يتوقع انفجارها لكنه لم يدرك أبعادها.
ولأن الأقصى عزيز على كل مسلم، ولأن صلف اليهـود يستثير أحلم الناس، ولأن الشعوب هي التي تدفع الثمن، تصدى الغيورون لشارون، ورد اليهود بوحشية التوراة المحرفة والتلمود، فاشتعلت الأرض المحتلة كلها وتبعتها سائر الأقطار الإسلامية، وكانت انتفاضة رجب كالإعصار وتخطت الحواجز والأسوار وهتكت كثيراً من المؤامرات والأسرار.
وكان ذلك باختصار تعبيراً عن :
1 – القهر الذي يعاني منه الفلسطينيون وانتفاضة المقهور لا يعدلها انتفاضة.
2 – احتقان الغضب والرفض الصامت للشعوب طوال هذه السنين العجاف.
3 – شعور الزعماء العرب بالإهانة والتهميش حين أصبحت اللعبة ثلاثية الأطراف : إسرائيل تطالب إلى ما لا نهاية، عرفات يستسلم ويتنازل باستمرار، أمريكا الحَكَم الجائر تريد منهم الانسياق وراء ما تقرره، والتوسط لإرغام الفلسطينيين على قبوله، وتفرض عليهم تمويل المشروعات، وتمرير القرارات إعلامياً، وفرض النتائج على الشعوب دون مراعاة للحساسية الدينية الخطرة للقضية.
بعض العرب نصح أمريكا قائلاً : [إذا أردت أن تطاع فأمر بما يُستطاعرضي الله عنه، ولكنها مضت في غطرستها بلا رادع. وهذا ما شعـر به الأوربيون واليابانيون فضلاً عن الروس الراعي الآخر الذي تهدَّم بيته عليه ؛ ولهذا كانت الغضبة عامة عارمة وإن اختلفت الأسباب.
على أن الملمح الجديد لانتفاضة رجب هـو البروز الواضح للمصطلحات الإسلامية في لغة الخطاب لدى الجميع، وهو مؤشر للقوة المعنوية للصحوة المباركة، وأنها الطريق الأخير والوحيد بعد انكشاف زيف الشعارات العلمانية كلها.
وأقبلت تباشير الصباح ليوم سينتهي بغضب من الله وانتقام يسلطه على طواغيت الكفر وجند التخريب والإجرام.
< بقلم : الشيخ سفر الحوالي
-يتبع-