فضاءات دعوية : المسؤولية الجماعية للأمة الإسلامية


إن هذا الدين لم ينزل فقط لإصلاح الأفراد، كل فرد بمفرده، وإن كان هذا هو الأساس الذي لا يقوم بدونه بنيان، ولكن إصلاح كل فرد بمفرده لا ينشئ بذاته مجتمعا صالحا كما قد يخيل للإنسان لأول وهلة، فلو تخيلت بناء  كل لبنة فيه سليمة بذاتها، ولكن ليس فيه الملاط الذي يربط  اللبنات بعضها ببعض، فلن يكون بناء حقيقيا يصمد للهزات وما أكثرها في حياة الأمم بل الأفراد، بل لا يصمد للريح، و ما أكثر الرياح العواتي !

ولقد ركز هذا الدين تركيزا واضحا على الجماعة المسلمة بل على الأمة المسلمة المترابطة المتماسكة المتراصة، لا في العواطف الوجدانية فحسب، بل في العمل والتكاليف كذلك، وكثير من الخطاب الموجه للمؤمنين، الذي يبدأ بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا…} لا يقصد به الأفراد فحسب، كل فرد بمفرده، ولكن يقصد به الجماعة مجتمعة ومشتركة في المسئولية :{(يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} (المائدة: 51). {يأيها الذين آمنوا من يرْتَدِدْ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)}(المائدة: 55- 57). {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو  على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}(النساء: 135).{(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}(آل عمران: 287). {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران: 104). {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى: 38). {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله}(التوبة: 71). {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} (الصنف : 4) .

>مثل القائم في حدود الله  والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في مكاننا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما  أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا<.  >كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته<(أخرجه الشيخان.).

هذه الآيات والأحاديث وغيرها من أمثالها كثير تؤكد المسئولية الجماعية للأمة، التي لا يغنى فيها أن يكون كل فرد قد قام بواجبه الفردي تجاه الله سبحانه وتعالى من ذكر وتقوى وخشوع وأداء للفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج، وإن كان هذا كله لازما ولا غنى عنه، ولكنه -كما قلنا- لا يقيم بذاته أمة متماسكة عاملة بهذا الدين، على صورته التي أنزلها الله، وللأهداف التي أرادها الله منه، لا يقوم به أفراد متفرقون ولو كان كل واحد منهم على طهارة القديسين في خاصة نفسه، وهو فرض لا يتحقق في واقع الأرض ما دام البشر بشرا، تدفعهم دوافع شتى، وتضطرب في  نفوسهم شتى الانفعالات والرغبات والشهوات، وما دام الله قد جعل في كل قرية أكابر  مجرميها ليمكروا فيها، ما لم يردعهم  رادع: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون}(الأنعام: 123).

وحتى لو كان وجود أكابر المجرمين خاصا بالجاهلية ولا يقع في الإسلام، فإن”القرية العالمية “التي يزعم الزاعمون أن العالم قد صار إليها بفعل وسائل الاتصال مملوءة بأكابر المجرمين الذين يكيدون للإسلام ويتربصون بأهله،فهل قيام الأفراد – حتى لو قاموا كلهم – بالصلاة والزكاة والصيام والحج، والخشوع والتقوى في ذوات أنفسهم، يمكن أن يرد كيد أكابر المجرمين، ويرد الفتنة الوافدة على المسلمين من الجاهلية؟ أم يحتاج هذا إلى أمة متماسكة مترابطة قائمة بمسئوليتها الجماعية، عاملة بمقتضى تلك المسئولية، التي يحمل فيها كل فرد نصيبه، والتي لا تتماسك حقا إذا قال كل فرد فيها: نفسي نفسي، ونكل عن مسئوليته تجاه المجموع.

وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي  أصحابه فردا فردا ثم يقيمهم كل في عالمه الخاص، ويقول له: كن في نفسك ولا شأن لك بغيرك؟ أم كان يربي كل فرد منهم ليكون لبنة متماسكة مترابطة مع  غيرها من اللبنات في كيان متحد، فيضع في كل لبنة ذلك الملاط الذي يجعلها تلتصق بغيرها، وتكون على استعداد أن يلتصق غيرها بها… ملاط المشاعر المترابطة، والمسؤولية المشتركة، وهما صنوان لا يغني أحدهما عن الآخر.

التكافل  مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه، ولكن عائده ينصب إيجابا وسلبا على مجموع الأمة، فتكون الأمة مترابطة متحابة إن قامت به، أو طوائف يحقد بعضها على بعض إن نكلت عنه.. والجهاد مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه  ولكن عائده يعود إيجابا وسلبا على مجموع الأمة، فتبقى وتتمكن أو يأكلها أعداؤها. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه، ولكن عائده يعود إيجابا وسلبا على مجموع الأمة، فتكون أمة خيرة أو أمة ملعونة: خيرة إن أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وملعونة إن نكلت عن واجبها : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(آل عمران : 110).  {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن  منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}(المائدة: 78-79).

وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى تفشي هذه الروح الفردية الناكلة عن التكاليف الجماعية، و عن الشعور بالمسئولية تجاه المجموع، فقد أحدثت هذه الروح مفاسد عظيمة في كيان الأمة، ليس أقلها التخلي عن واجب النصح للحكام، وهو واجب جعله رسول الله صلى الله عليه  وسلم جزءا من الدين بل قال عليه الصلاة والسلام على سبيل التأكيد: الدين النصيحة” قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: “لله ورسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم” (متفق عليه.). وترك الاشتغال بالسياسة، و ترك شأن الحكم للحاكم، إن كان عادلا فهو الخير من عند الله و البركة، وإن كان مستبدا فلا ناصح له  من الأمة يرده عن استبداده وظلمه، و إنما يتحلق حوله المنافقون يزينون له كل عمل يعمله، ولا تصل إلى أذنيه صيحة حق، وإن و صلت قام المنافقون حوله بإيغار صدره عليها وعلى قائلها ! وليس أقلها فشل كل مشروع يحتاج إلى تعاون جماعي يقوم كل فرد فيه بنصيبه مع الآخرين، وليس أقلها روح التخريب في الممتلكات العامة والمرافق العامة والمال  العام.

ذ. محمد قطب

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>