غربة العربية


1- الفصحى و شبهة

“العربية المعاصرة”

من المعلوم أن استعارة اللغة ألفاظا من لغة أخرى ظاهرة قديمة ومستمرة لا تنقطع، تلازم اللغة وتصاحبها في تطورها ونموها، وتنهض دليلا على قدرتها على مواكبة أحداث العصر وتطور العلوم وانتقال الحضارات.

ولقد استعارت اللغة العربية ألفاظا كثيرة من لغات شتى وأعارتها ألفاظا من عندها. وقد ذكر الجواليقي في كتاب “المعرب” أن اللغويين الأوائل قالوا: “اعلم أنهم كثيرا ما يجترئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجا،  وربما أبدلوا ما بعد مخرجه” [المعرب: 6رضي الله عنه.

فعربت ألفاظ معجمية كثيرة ذات أصول يونانية  وسريانية ورومية وآرامية وفارسية، مثل (الإبريز)  و (القرميد)، و(القسطاس)، وغير ذلك… وانتقلت ألفاظ عربية شتى إلى لغات أعجمية… ولم يخف على علماء العربية قديما حركة النقل اللغوية التي تقترض بموجبها لغة من أخرى ألفاظا معينة؟ فقد أورد الجواليقي في مواضع كثيرة من كتاب (المعرب)، وشهاب الدين الخفاجي في كتاب (شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل)،  وابن منظور في معجم (لسان العرب)، كثيرا من الألفاظ المستعارة من لغات مختلفة، وميزوا بين جانبين اثنين في النقل، هما: “الدخيل” و “المعرب”، فقد أشاروا بلفظ الدخيل إلى اللفظ من حيث أصله ومورده، وبلفظ المعرب إلى اللفظ من حيث  نقله ومستقره وخضوعه لمقاييس العربية الصوتية والصرفية، كالإبدال والإعلال والقلب وغير ذلك من المقاييس التي تعرب اللفظ وتنزع عنه عجمته وغرابته، مما يجعل اللفظ المنقول أعجميا باعتبار الأصل عربيا باعتبار الحال،  ويهمنا من هذا التمييز الاعتبار الثاني وهو صب اللفظ في قوالب التعريب وإلحاقه بالألفاظ التي هي عربية بالوضع.

وهذا النوع من النقل يغني العربية ويرفدها بألفاظ جديدة تمكنها من توسيع قاعدة الدلالة والمعجم العربيين، وتثبت قدرة العربية على استيعاب الجديد. أما حالة العربية اليوم فإنها تختلف عن حالتها بالأمس فيما يتصل بنقل ألفاظ اللغات الأخرى، فقد تأثرت العربية في عصرنا الحديث بجملة من المؤثرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي عصفت بمعجمها ونظام قواعدها التركيبية والصرفية، وجعلتها عرضة للتأثر بكل ما يطرأ على المتكلمين بها، حتى إن كثيرا من الدارسين اللسانيين اليوم اعتبروا حالة العربية اليوم حالة طبيعية أو درجة من درجات التطور الذي بلغته، ودعوا العربية في حالتها الراهنة -وبما علق بها من تغير ملكات المتكلمين وضعف قدراتهم و تأثرهم باللهجات واللغات الأجنبية الغازية – دعوها بـ “اللغة العربية المعاصرة ” تمييزا لها عما سموه باللغة العربية الكلاسيكية أو التقليدية، وكأن المقصود بالفصحى و المعاصرة لغتان مختلفتان لكل واحدة منهما نظامها و قواعدها وأصواتها. فالقول بوجود عربية فصيحة وأخرىمعاصرة أو عامية هو قول بوجود “حدوس” متعددة أو ملكات عربية مختلفة، وهذا أمر فيه نظر؛ لأن ما يدعى بالعربية المعاصرة ليس إلا استعمالا مخصوصا أو “إنجازا” من “إنجازات” العربية الفصيحة والخلاف بينهماهو خلاف في الإنجاز والسليقة واحدة في الأصل، ويتفاوت المتكلمون بالعربية اليوم بتفاوت المستويات الثقافية والعلمية بينهم، حيث إن المتكلم العربي اليوم يقترب من العربية الفصحى بقدر ارتفاع حظه من الثقافة العربية، ويبتعد عنها بقدر انخفاض حظه منها، أما الملكة العربية العامة اليوم فهي جزء من الملكة العربية الفصيحة أو هي محولة عن الملكة الفصيحة ومتفرعة عنها ومشتقة منها،  وقد تكون منحرفة عنها بسبب عوامل عديدة… ويمكن اعتبار بنية الجمل التي يصدرها العامي صورة منحوتة من بنية الفصيحة، وليس للعربية المعاصرة أو الدارجة ظواهر ومواد خاصة بها، ولا يمكن أن يقال إن لهما معجما مشتركا، ولكن الفصيحة هي التي تشتمل على المعجم وتنفرد به  وأما المعاصرة أو الدوارج فإنها تستمد من هذا المعجم فتأخذ منه وتدع،  بحسب التجربة التي يكتسبها المتكلم العربي، وأما أصواتها فإنها مضمنة في أصوات الفصيحة التي تفوقها في المكنة الصوتية والعدة التركيبية.  ولا يمكن عد “إهمال القواعد” دليلا وشرطا على قيام لغة مستقلة، فالإهمال حالة سالبة لا تغني القواعد في شيء.  إن اللغة العربية عربية واحدة لا عربيات متعددة، فلا ينبغي أن نطلق أسماء بلا مسميات، كالعربية المعاصرة  والعربية السورية والعربية المصرية والعربية المغربية…. وهلم جرا، فليس هناك أدلة تجريبية تؤيد هذا الحكم؛ لأن الإنجازات التي تصدر عن المتكلمين في الوطن العربي الكبير ليست إلا انحرافات تركيبية وصوتية ودلالية ومعجمية اعترت العربية الفصيحة، ومن الممكن تعديلها لكي تستوي على حالتها الفصيحة الأولى، وتجريدها من حالة الانحراف الذي اعترى جملها وأصواتها وصرفها ومعجمها، وإعادة تأسيسها على أصلها العربي الفصيح. فالإنجاز اللغوي المعاصر لم ينبثق من عدم ولكنه تولد من الملكة العربية الفصيحة نفسها، هذه الملكة التي مر عليها حين من الدهر وتعرضت لمؤثرات مختلفة، ثم ظهرت على شكل ما يدعى بـ “العربية المعاصرة” أو على شكل مجموعات لغوية مختلفة.

وهذه المؤثرات المختلفة التي تعرضت لها العربية الفصيحة في مسيرتها التاريخية وفي رسالتها الدلالية، أنشأت حالة من الغربة التي تعاني منها العربية اليوم، وهي حالة إيجابية تعكس قدرة العربية على مواجهة مستجدات العصر ومواكبة الأحداث ومقاومة عوامل الاندثار والانقراض التي تعاني منها لغات كثيرة في العالم.

د. عبد الرحمان بودرع

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>