لقد تم تجاهل مضمون ما يقدمه هؤلاء الدعاة من فكر ودين ، وتم تسطيح القضية في ما يلبسونه وما يأكلونه ، وكيف انهم يتابعون احدث صيحات الموضة ، ويركبون احدث موديلات السيارات ، ويسكنون في أحياء راقية ، وتحولت بعض التحقيقات الصحفية التي تناولت تلك الظاهرة إلى ما يشبه البلاغات الأمنية ، واخذ محرروها في التنقيب داخل الملفات القديمة لهؤلاء الدعاة للبحث عن سقطات أخلاقية أو صلات محتملة لهم بجماعات الإسلام السياسي – على حد وصف تلك الصحف – ، مع أن التناول الموضوعي لتلك الظاهرة كان يوجب عليها التنقيب في أفكار هؤلاء الدعاة ومدى صلاحيتهم للدعوة والإفتاء وليس في شكلهم وملبسهم ، وكان عليها أن توجه خطابها إلى علماءربانيين ـ فهم الأقدر على تحديد مدى أحقية وكفاءة هؤلاء في العمل في مجال الدعوة .
دعاة ولكن ليسوا جددا
ويرى العديد من المحللين ذوي الصلة بالشان الإسلامي أن الحديث عن ” دعاة جدد ” يبدو غير دقيق، فالشيء الجديد في تلك الظاهرة يتمثل فقط في آمرين : أولهما صغر سن هؤلاء الدعاة والأمر الثاني هو حجم التناول الإعلامي المكثف لنشاط هؤلاء الدعاة. أما عن وجود دعاة يرتدون البذلة ويجيدون اللغات الأجنبية فليس بالآمر الجديد، فمعظم أساتذة جامعة الأزهر في مصر يفعلون ذلك، والشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – كان يجيد الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وكان يطلع بشكل واسع على الصحف الإنجليزية والفرنسية ويحرص على تضمين كتبه إحالات وإشارات عديدة لموضوعات لتلك الصحف، وفيما يتعلق بالظهور على القنوات الفضائية فان الداعية الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي – وهو لا يصنف في خانة الجدد – يعد الارسخ قدما في هذا المضمار، وله برامج أسبوعية ثابتة في بعض القنوات، إضافة إلى ذلك فان مريدي الشيخ قاموا بإطلاق العديد من المواقع التي تضم كتبه ومؤلفاته وخطبه على شبكة الانترنت، و أما فيما يتعلق بارتداء الملابس العصرية فان الدكتور عبد الله شحاته يعد الأطول باعا في ذلك المجال، وهو على الرغم من كبر سنه يحرص على أداء رياضته اليومية على الدراجة مرتديا بذلة وحذاء رياضيين وقبعة للحماية من أشعة الشمس، ويتميز بأناقة لا تخطئها العين.
عمرو خالد داعية حكيم
ويعد الأستاذ عمرو خالد الأكثر شهرة بين الدعاة ” العصريين”، وتلقى دروسه إقبالا كبيرا من جانب مختلف الطبقات والأعمار المتعطشة لكلمة الصدق، وفي كل مرة كان ينتقل فيها عمرو خالد من مسجد لآخر كان يتبعه جمهوره إلى حيث يستقر به المقام، وعلى الرغم من انه لم يبلغ بعد الخامسة والثلاثين، إلا أن عمرو خالد يتمتع بقدرة كبيرة على فهم دخائل مريديه خاصة الشباب من الجنسين، وذلك من خلال لغة سهلة تبدو اقرب للعامية منها إلىالفصحى، وغالبا ما يناقش خلال دروسه قضايا أخلاقية واجتماعية معاصرة، وهو ما يشعر الشباب بقربه منهم وتفهمه لمشاكلهم ومعاناتهم.
ويشدد عمرو خالد على انه ليس مفتيا، ويرفض الإجابة على الأسئلة الفقهية التي توجه إليه، ويحيلها إلى لجان الفتوى في الأزهر الشريف، ويبدو هذا أمرا طبيعيا، فالرجل تخرج من كلية التجارة 1988 ثم التحق بالعمل بإحدى مكاتب الحسابات، قبل أن يستقل بمكتب خاص به، ولكي يعمق معرفته واطلاعه الديني، التحق عمرو خالد بإحدى معاهد الدراسات الإسلامية، كما انه يحضر للحصول على درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي.
ويلخص عمرو خالد أسلوبه في الدعوة في عرض الدين بشكل مبسط يحرك القلوب ويحسن الصلة بالله، وذلك من خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأحداث السيرة وقصص الصحابة، ويرفض عمرو خالد وصفه بـ ” شيخ الشباب “، مؤكدا أن جمهوره من مختلف الشرائح العمرية، وان كان صغر سنه وقربه من مشاكل الشباب يجعله قادرا على فهم مشاكلهم وفتح مجالات للحوار المبسط وإيصال المعلومات بكلام علمي بعيدا عن لغة الأمر والنهي، وهذا ما يجعله يلقى قبولا لدى الشباب.
ويحرص عمرو خالد من خلال برامجه التي تذاع عبر القنوات الفضائية على استضافة نماذج لشباب انتظموا في الالتزام بالشعائر والفروض وشابات ارتدين الحجاب بعد سماعهن لدروسه، وهو ما يوضح مدى قوة الارتباط بينه وبين جمهوره، لتركيزه على الإيمان بالثوابت وحب الله والرسول صلى الله عليه وسلم والآخرة وابتعاده عن القضايا الخلافية.
خالد الجندي
والإفتاء عبر الهاتف
والى جانب عمرو خالد، يعتبر الشيخ خالد الجندي أحد ابرز الدعاة الشبان، خاصة انه يتميز عن الأول بأنه أحد أبناء الأزهر الشريف، حيث يحمل شهادة الإجازة من كلية أصول الدين، وبعد تخرجه التحق بالعمل خطيبا وإماما بوزارة الأوقاف، كما انه واصل دراسته العليا في كلية أصول الدين وقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم.
ويفخر الشيخ خالد الجندي بأنه تلقى العلم على يد رجاله في جامعة الأزهر، ويروي في أحاديثه كيف انه كان يجوب طول البلاد وعرضها سعيا وراء درس لاحد هؤلاء العلماء الاجلاء، وساعده حرصه على طلب العلم على اعتلاء المنبر مبكرا وقبل أن يفرغ من دراسته الثانوية في الأزهر.
ويرفض خالد الجندي اتهام الدعاة الجدد بالسعي وراء النجومية، ملخصا منهج هؤلاء الدعاة في التحدث باللغة التي يفهمها المجتمع، ولان لسان المجتمع بتغير من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان، ومن مستوى فكري إلى آخر، فقد بات ضروريا أن تتغير لغة وأسلوب الداعية لتناسب جمهوره، فالتبسيط في العبارة هو الذي يجذب الناس إلى الدعوة.
ويفند خالد الجندي الاتهام الذي يوجه لمعظم الدعاة “العصريين ” بالتيسير الزائد، والذي يصل أحيانا إلى حد التنازل في حقوق وحدود الدين وواجباتهالأساسية، مؤكدا انه لا أحد يملك فتح اوكازيون الهي للعباد، وان الفتوى لا تقدم وفق مبدأ ” ما يطلبه المستمعون “، فالتيسير منهج اتبعه الرسول في الدعوة، وشتان الفارق بين التيسير والتفريط.
ويعتبر خالد الجندي صاحب تجربة جديدة في مجال الدعوة، وهي ” الهاتف الإسلامي “، وذلك من خلال تخصيص خدمة تليفونية مدفوعة الأجر لتلقي الفتاوى وتقديم الأجوبة عليها، ويتحمل طالب الفتوى قيمة المكالمة، ويقسم عائد المكالمات بين شركة الاتصالات والشركة مقدمة الخدمة وفريق الدعاة الذي يتولى الإجابة على الفتاوى ويحصل على 25 % من ثمن المكالمة.
ويتلقى الهاتف الإسلامي شهريا ما يقرب من 15 ألف سؤال، وتتعلق معظم الأسئلة بفتاوى أسرية وجنسية وغيرها من القضايا التي قد يجد السائل حرجا في طرحها بشكل مباشر على لجان الفتوى. ولكن فكرة الفتاوي مدفوعة الأجر أثارت الكثير من الانتقادات، فالدكتور يحيي إسماعيل الأستاذ بجامعة الأزهر يؤكد انه لا يليق أن يتاجر البعض بالفتاوى، وتقبل المال مقابل الفتوى يعتبر إثما ومعصية، فالفتاوى هي من اختصاص أهل الفتاوى وأصحاب العلم والمعرفة العميقة في مفهوم الدين الإسلامي.
وينفي خالد الجندي أن يكون ما يتقاضاه من قيمة المكالمة هو مقابل إعطاء الفتوى، بل مقابل استعمال التكنولوجيا ووقت العلماء الذين يتولون الرد على الأسئلة، ويتعجب الجندي من صمت الجميع عندما تم تخصيص هواتف للاغاني والنكت وحظك اليوم، في حين أن الدنيا قامت ولم تقعد عندما خصص هاتف لتلقي الفتاوى والاستشارات الدينية.
الدعوة بين الهواة والمتخصصين
ويدافع الدكتور يوسف القرضاوي عن شباب الدعوة الإسلامية، مشيرا إلى انه استمع إلى إحدى حلقات الشاب ” الصالح ” عمرو خالد في قناة ” إقرأ “، ووجده يتكلم كلاما طيبا في الرقائق والأخلاقيات ليست ضد الدولة لا تدعو إلى إرهاب ولا عنف، وتساءل : ” فلماذا نضيق بهذا ذرعا ؟ ! “. ويحذر القرضاوي من احتمال ” وجود بطانة سوء هي التي تخوف من هولاء الناس وتضخم بعض الأشياء “.
ويبدى الدكتور يحيى اسماعيل تحفظا على ظاهرة الدعاة الجدد ويصفهم بـ ” الهواة “، مشددا على ان الإسلام يسع الجميع ووجود هؤلاء خير من عدمه، لكن الفقه والفتوى لهما أهلهما، وإذا تغيب الدعاة المتخصصون فان الهواة سيتقدمون لملء الفراغ الناتج عن غيابهم، وهنا موطن الخطورة، حيث سيتقدم للفتوى من ليس أهلا لها.
ويحمل د. اسماعيل وسائل الإعلام مسئولية تشويه صورة المسجد ورجل الدين التقليدي في نظر الشباب، وهو ما جعل أفراد الطبقات الوسطى والراقية يفضلون أن يأتي إليهم العلماء في النادي أو المنزل بدلا من ذهاب أولادهم إلى المسجد باعتبار ذلك بداية التطرف والإرهاب. ويحذر الدكتور يحيي اسماعيل من خطورة غياب الدعاة المتخصصين عن ميدان الدعوة، مشيرا إلى أن ذلك تسبب في ظهور جرائم من عبدة الشيطان وجماعات الشواذ.
التدين الدمث والتدين الجهادي
ولفتت ظاهرة الدعاة الجدد انتباه الدكتور يحيى الرخاوي استاذ الطب النفسي، وخصص مقاله الأسبوعي في صحيفة ” الوفد ” القاهرية لتناول الظاهرة، وجاء عنوان المقال – ” المغزى السياسي لظاهرة عمرو خالد ” – معبرا مدى تشعب الظاهرة وتغلغلها داخل المجتمع.
ويرى الرخاوي أن حالة العزل الإجباري للمصريين عن ممارسة السياسة، دفعتهم إلى البحث عن بدائل وقضايا أخرى يلتفون حولها، وبما أن الشعب المصري بطبيعته متدين فان المد الديني شكل بديلا وعلاجا لحالة الاغتراب السياسي، واكتسبت حلقات ” العلم والإيمان ” التي كان يقدمها الدكتور مصطفى محمود للتليفزيون المصري شعبية هائلة بين المشاهدين، وعلى نفس النهج تسير الحلقات التي يقدمها الدكتور زغلول النجار و هي تتناول الإعجاز العلمي في القران. وفي مجال الدعوة المتخصصة حظي الدرس الأسبوعي للداعية الشيخ محمد متولى الشعراوي بقبول تعدى حدود مصر والعالم العربي إلى مختلف دول العالم الإسلامي، وليكتسب صاحبها بجدارة لقب ” إمام الدعاة إلى الله “.
وبرغم إشادة الرخاوي بالمضمون الديني والأخلاقي الذي تقدمه دروس الشيخ عمرو خالد، وفرحته بالتفاف الشباب حولها بدلا من التفافهم حول ” الجوزة او حلقات ذكر الشيطان “، إلا انه يطرح عدة تساؤلات تبدو جديرة بالاهتمام والدراسة من جانب علماء الدين ورجال الدعوة، فالرخاوي يخشى أن يتصور البعض إمكانية الهاء الشباب بهذا الجانب الروحي من الإسلام عن حقهم في المشاركة ومسئوليتهم في الوجود وضرورة الكدح والسعي لتعمير المجتمع ومكافحة الظلم، إضافة إلى الخوف من أن ينسي هذا التدين الدمث، حقائق أساسية في الإسلام مثل الجهاد والاستشهاد وبذل النفس والمال.
ويحذر الرخاوي من خطورة أن تتصور الدولة أنها يمكن أن تروج لجرعة دينية بالقدر الذي يناسبها، وللغرض الذي تضمره، فالسادات دفع حياته ثمنا لهذا الخطأ.
ويعد تاريخ الدعوة في الإسلام إحدى العلامات المضيئة في تاريخ وانتشار هذا الدين، فوسائل الدعوة تختلف من مكان لاخر، ونفس الأمر ينطبق على لغة الدعوة والدعاة، ولكن تبقى المبادئ ثابتة وأصيلة وغير قابلة للتعديل أو التبديل، فرُخَصُ ابن عباس لم تنفر الناس من شدائد ابن عمر، وزهْدُ أبي ذر الغفاري لم يثر الغبار حول ثراء عبد الرحمن بن عوف. كذلك الأمر بالنسبة لتجدد أساليب ووسائل الدعوة والدعاة، طالما تم الحفاظ على جوهر ومبادئ الإسلام