لقد أصبح الناس في هذا الزمان يُقدمون على أعمال دون أن يبحثوا عن حكم الشرع فيها، إلا أن الأصل ألا يُقدم المسلم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه. وهناك من يبحث عن حكم الشرع فيما يريد أن يُقدم عليه ولكن يحاول أن يكيف ذلك حسب هواه وشهوته، ولنأخذ على سبيل المثال ظاهرة من الظواهر التي انتشرت في زماننا هذا، هي ظاهرة شراءِ السكن بالقروض الربوية وصورتها هي أن يتولى البنك إقراض المشتري ثمن البيت، ويقسط هذا الثمن أقساطاً طويلة المدى ويأخذ على ذلك فائدة مركّبة قد يبلغ بها القرض نهاية المدة أضعافاً مضاعفة، والذين يُسوغون لأنفسهم هذا الفعل يعتمدون على فتوى صدرت عن كلِّ من المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ومؤتمر رابطة علماء الشريعة بأمريكا الشمالية، التي تبيح للمسلمين المقيمين بأوربا والولايات المتحدة الأمريكية الاقتراض بالربا لشراء المسكن، وكان الشيخ يوسف القرضاوي ممن وقفوا وراء هذه الفتوى. وكما يلاحظ أن هذه الفتوى خاصة بالمسلمين في المجتمعات الغربية لا في المجتمعات الإسلامية، ومع ذلك فإن هناك من المسلمين من يعمل بها داخل المجتمعات الإسلامية، إلا أن هذه الفتوى لم تسلم من الانتقاد من الذين ناقشوها وانتقدوها وأثبتوا بُطلانها مثل الدكتور صلاح الصاوي حيث أصدر كتاباً مهما:ً بهذا الشأن أسماه >وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية<(ü) وتعميما للفائدة وتنبيها لمن يرتكز على هذه الفتوى ارتأيت أن أختار من هذا الكتاب ما يحقق هذا الغرض.
في هذه الحلقة يرد د . الصاوي على المجيزين لشراء السكن بالربا المستدلين بما ذهب إليه الأحناف من جواز التعامل بالربا في دار الحرب عبر الوقفات التالية :
الوقفة الأولى :
لاأحد من المستدلين بهذا المرتكز ناقش مذهب الأحناف في هذه المسألة من حيث المبدأ : قوة أو ضعفاً، صواباً أو خطأ، وكأنهم انطلقوا من مسألة تمثلت في أن الآراء الفقهية كافة مادامت منسوية إلى الأئمة المتبوعين فإنها تدخل بذلك في إطار القبول العام، ويمكن الاعتماد عليها، وبناء المواقف على أساسها، أيا كان حظها من النظر، وهذا خلاف المعروف عند أهل العلم، إذ الأصل فيما تنازع الناس فيه أن يرد إلى الله ورسوله، كما قال تعالى : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر}(النساء : 58)، ولا أحسب أنه يغيب عن جل من أجازوا هذه المعاملة ما قرره علماء الأصول في قولهم :
وليس كل خلاف جاء معتبراً
إلا خلاف له حظ من النظر
وقد تعلمنا منهم ومن أمثالهم أن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق، وكثيراً ما رددوا على مسامعنا هذه المقولة : اعرف الحق تعرف أهله!.
الوقفة الثانية :
أن ما ذهب إليه الأحناف في هذه المسألة معارض بما ذهب إليه الجمهور من القول بأن حرمة الربا لا تتغير بتغير الأماكن، فالربا حرام فوق كل أرض وتحت كل سماء، فلا يحل لمسلم أن يعامل الحربيين بالربا أخذا أو إعطاء، وأدلتهم،-أي الجمهور- أقوم قيلا وأهدى سبيلا، ومن هذه الأدلة :
أ-إطلاقات النصوص الواردة في تحريم الربا والتي لم تقيده بمكان دون مكان، ولا بفريق دون فريق.
ب-أن حرمة الربا ثابتة في حق الكفار كما هي ثابتة في حق المسلمين على الصحيح من أقوال أهل العلم في مخاطبة الكفار بالمحرمات وقد قال تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} (1) وقال تعالى : {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}(2) وهذه الآية نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة كما يقول القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (3). ومتى كانت المحرمات أمرا خاصا بالمسلمين في ديار الإسلام، فإذا خرجوا منها استحلوا محارم الله ! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اتق الله حيثما كنت” (4).
ج- قياس حرمة الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب على حرمته بين المسلم وبين المستأمن في دار الإسلام، فإن المستأمن في دار الإسلام يجري تحريم الربا بينه وبين المسلم إجماعا (5)، وممن نقل هذا الإجماع الأحناف أنفسهم (6)، فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وإلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه.
د-ما يفضي إليه تحريم الربا في علاقة المسلم بالمسلم، وإباحته في علاقة المسلم بالحربي، من التشبه باليهود في تحريمهم الربا في علاقة اليهودي باليهودي، وإباحته في علاقته مع الأميين ! {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}(7)، وقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الثالث والعشرون والمنسوب إلى موسى \ “لا تقرض أخاك ربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا “وفيه” للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلاهك”.
ولقد أشار صاحب الفضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي لهذا المعنى في كتابه القيم ” فوائد البنوك هي الربا الحرام” عندما قال: ومن فضل الإسلام على البشرية أنه حرم الربا تحريما جازما بل حرم كل ما يفضي إليه أو يساعد عليه، ولم يقل ما قالته التوراة المحرفة من تحريم الربا في معاملة الإسرائليين بعضهم لبعض، وإباحته إذا تعاملوا مع الآخرين، بل حرمه في كل تعامل مع مسلم أو غير مسلم، فالإسلام لا يتعامل بوجهين، ولا يكيل بكيلين” (8). وأحسب أن الإسلام هو الإسلام، وأنه لا يزال لا يتعامل بوجهين ولا يكيل بكيلين ! (9)
د. صلاح الصاوي
———
(ü) وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية، د. صلاح الصاوي، الناشر : التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية، الطبعة الأولى : 1421هـ -2000م.
1-النساء: 160.
2 -المائدة: 6.
3 -أحكام القرآن: 1/647.
4 – رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي ذر رضي الله عنه، انظر الجامع الصحيح: ج:1، حديث رقم: 97.
5 -انظر: المجموع للنووي: 9/443، والمغتي لابن قدامة: 4/39.
6 -انظر حاشية ابن عابدين: 5/186.
7 -آل عمران: 74.
8 -فوائد البنوك هي الربا الحرام، د. يوسف القرضاوي، ص: 19.
9 -هذا الكلام موجه للشيخ القرضاوي، لأنه من المبيحين..