أنهى وزير الخارجية الأمريكي كولين باول جولته في الشرق الأوسط وسط تساؤلات المراقبين عن الدور الذي يمكنه القيام به تجاه الممارسات الإسرائيلية الوحشية والبربرية في المناطق الفلسطينية.
الإعلان عن رحلة كولين باول إلى المنطقة بهذا الشكل المفاجئ جاء بعد الانتقادات الدولية الحادة الموجهة إلى السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والسلبية التي تتعامل بها مع أكثر القضايا حساسية في أكثر مناطق العالم التهابا.
باول لن يضغط على إسرائيل
وعلى أية حال، فإنه لم يكن من المتوقع أن يمارس باول أي ضغوط على الحكومة الإسرائيلية. فخطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش مساء الخميس 11-4-2002 حول الأوضاع في الشرق الأوسط كشف مجددا عن استخفاف إدارته بالموقف؛ ولا يمكن النظر إليه إلا على أنه موافقة ضمنية على جرائم الجيش الإسرائيلي التي لا يختلف عاقلان على أنها انتهاك واضح لأبسط قواعد القانون الدولي والإنساني.
كما أن تصريحات بوش مع رئيس الوزراء البريطاني “توني بلير” ليست سوى استهانة واضحة بكل مشاعر الغضب الشعبي العربي التي أصبحت لا تتردد في اتهام واشنطن بالتعاون مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، لا سيما أن بوش تجاهل -في طلبه بضرورة “الانسحاب العاجل” من المناطق التي أعادت إسرائيل احتلالها- تماما وضع الرئيس عرفات، مكتفيا بدعوة سخيفة بضرورة ممارسة الرئيس المحاصر ضغوطا أكثر لكبح جماح العنف.
العواصم العربية في موقف
لا تحسد عليه
فتصريحات باول إلى شبكة “فوكس” الإخبارية بأنه ينوي مطالبة القيادات العربية -التي سيلقاها- بضرورة الضغط على الجانب الفلسطيني لوقف العنف مدعاة للسخرية، وليست مبررا مقنعا لزيارته بعض العواصم العربية والأوروبية قبل أن يصل إسرائيل يوم الجمعة 12-4-2002. فماذا يمكن أن يقدمه له العاهل المغربي محمد السادس المسؤول عن لجنة القدس وماذا ينتظر من ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بعد أن داست الدبابات الإسرائيلية مبادرته، ورفضتها بعض الدول المعنية بالأمر وبعدما أكد الشارع العربي وفاتها نهائيا؟
العواصم العربية التي زارها باول في موقف لا تحسد عليه، فهي بين مطرقة الرأي العام الغاضب وسندان التهديد والوعيد الأمريكي؛ فقد أعلن باول -في حديثه إلى شبكة فوكس الإخبارية- أن المملكة العربية السعودية تؤيد الإرهاب بدعمها لأسر الشهداء الفلسطينيين؛ واستند في ذلك إلى موقع السفارة السعودية في واشنطن على شبكة الإنترنت. وليس مستبعدا إذن أن يتهم العواصم العربية كلها بدعم الإرهاب؛ لأنها لم تنجح في قمع المظاهرات بشكل أقوى، ولم توقف حملات التبرعات واحتجاجات النقابات المهنية، وقد يكون لديه ما هو جديد من وسائل القمع.
من الممكن إذن، أن باول اختار يوم الجمعة لزيارة إسرائيل لتتمكن قواتها من ارتكاب عدد أكثر من المذابح، حتى يصبح بإمكانه تأكيد انهيار السلطة الفلسطينية ورفع شرعية رئيسها ياسر عرفات تماما، لا سيما أن إسرائيل رفضت أن يقابله الوفد الأوربي المتمثل في وزير الخارجية الإسباني “جوسيبه بيكيه” ومسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي “خافيير سولانا”، عندما توجها يوم الخميس 4-4-2002 في محاولة يائسة لفعل أي شيء يوقف حمام الدم في الضفة الغربية.
كما رفضت إسرائيل مشاركة الطاقم الفني الفلسطيني في المقابلة التي أجراها المبعوث الأمريكي “أنتوني زيني” مع الرئيس الفلسطيني على انفراد مساء الجمعة 5-4-2002.
إعداد لمرحلة ما بعد عرفات
وربما يكون السبب الثاني لهذه الزيارة المشبوهة هو الإعداد لمرحلة ما بعد عرفات، وتحديد الشريك الجديد الذي لا يعارض طلبات إسرائيل. فبعد إعادة احتلال الضفة الغربية، وعزل قطاع غزة ا اجتياحه، والإذلال المتعمد لكل الفلسطينيين ينتظر شارون والولايات المتحدة موافقة عربية على جميع الشروط دون أدنى مقاومة. فواشنطن ليست بحاجة لاستخدام وسائل ضغط على الفلسطينيين لإعلان انهيار سلطتهم الوطنية والتخلي عن عرفات كرئيس شرعي، لا سيما أن الفلسطينيين رأوا بأنفسهم مدى ضعف الحكومات العربية وتخاذلها. وأصبح لدى المسؤولين الفلسطينيين قناعة تامة بأن تلك الأنظمة لن تقدم لهم شيئا؛ ولسان حالها يقول “تدبروا أموركم بأنفسكم”، كما أن الأوروبيين تركوهم يلقون مصيرهم فلن يكونوا أكثر عروبة من العرب.
هذا الموقف العربي المتخاذل والأوربي الضعيف يراه الأمريكيون والإسرائيليون نقطة ضعف في الجانب الفلسطيني ومكسبا لإسرائيل، وتجهيزا جيدا للخطوة النهائية.. وهي الاستسلام التام دون مقاومة تذكر، والقبول بكل ما تمليه واشنطن وتل أبيب حرفيا.
غليان الشعوب
إلا أن هذه المخططات قصيرة النظر ولن يُكتب لهاالنجاح المرجو؛ فالإذلال والمهانة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وصدمة الرأي العام الشعبي العربي في حكامه وفي الغرب الذي يرفع دائما شعارات الحرية ومكافحة الظلم والسعي وراء العدل ويتخاذل عندما يتعلق الأمر بالحق العربي، كلها عوامل تجعل من الصعب على الفلسطينيين قبول استسلام يفرضه عليهم من اختارته إسرائيل بديلا لعرفات، فهو سيكون في نظرهم خائنا، ولن يجد سوى قمعهم بالحديد والنار ضمانا لأمن إسرائيل ولسلامته هو أيضا؛ وهو ما لا يمكن أن يتواصل على المدى البعيد.
كما أن هذا المخطط لا يخدم مصالح واشنطن في المنطقة، ولن يعمل على تحقيق الأمن لإسرائيل.
فالمظاهرات المتواصلة في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج مؤشر يؤرق الحكومات العربية؛ لأن الغضب الشعبي يتهمها بالضلوع في المأساة الفلسطينية بالصمت المريب، والعجز الواضح وعدم القدرة على اتخاذ القرار المستقل.
وقد تصل هذه المظاهرات في بعض العواصم الحساسة -كالقاهرة وعمان- إلى نقطة اللاعودة، أو تتواصل بشكل آخر في عواصم الخليج العربي، وهو ما سينعكس بوضوح على المصالح الأمريكية في المنطقة، وخاصة تلك المتعلقة بالتجارة.
أمريكا تهدد العرب من خلال فلسطين
إلا أن الإدارة الأمريكية وصل بها الغرور إلى درجة أنها تستخف بالشعوب العربية، ربما ثقة منها في أن حكوماتها مدربة جيدا على أساليب القمع والقهر، وأنها ستئد انتفاضة الشعوب إن آجلا أو عاجلا، لا سيما أن واشنطن ترغب في أن تكون الحرب الإسرائيلية الجديدة ضد الفلسطينيين مثالا حيا لدول المنطقة التي تضعها الولايات المتحدة الأمريكية تحت المجهر، وكأنها تقول: “هاكم الفلسطينيون لا يجدون من يغيثهم من الآلة الحربية الإسرائيلية، وهو سيكون حالكم عندما يحين دوركم”.. والرسالة موجهة إلى إيران وسوريا ولبنان والعراق وكل من تسول له نفسه أن يخالف الإرادة الأمريكية.
وقد تفاجأ واشنطن بأن ما ذهب إليه غرورها لم يكن سوى بداية تغيير حقيقي يقلب حساباتها رأسا على عقب؛ فالشعوب العربية التي لم يهدأ لها بال، أثبتت أنها لم تستسلم لغسيل المخ الذي مورس عليها لسنوات طويلة؛ وأن عقيدة الأمة يقظة وإن بدت وكأنها في غفلة. وتلك اليقظة هي العصا السحرية التي تفعل ما لا تستطيع آلات القهر قمعه، وما عجزت الديبلوماسيات المرتخية عن الوصول إليه.
< تامر أبو العينين <