مقدمة :
إن اهتمامنا بمجال التربية يعني اهتمامنا بالطفل لكونه النواة الأولى والعنصر الأساسي الذي يتشكل منه المجتمع.
وتعتبر الطفولة أولى المراحل وأهمها في حياة الفرد، إذ عبرها يمر الشخص لبلوغ مرحلة النضج والمسؤولية. ومن هنا وجب الاهتمام بهذه المرحلة وإيلاء هذه الفترة ما تستحقه من العناية اللازمة والفائقة ابتداء من البيت فالمدرسة فالمجتمع فالحياة برمتها. وبما أن الإنسان بطبعه طموح وخلاق ومحب للتغيير فإنه من الواجب أن نعمل على تهييء أجيالنا – أطفالنا الذين هم رجال المستقبل حتى يتمكنوا من مواجهة رياح التغيير مع ما تحمله من سلبيات وإيجابيات.
إن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية يتكون من عناصر مترابطة و متراصة وتشمل :
1- الأفراد والجماعات ذوي لغة مشتركة لحصول التواصل والتفاهم.
2- تقاليد وعادات تبلورها العلاقات والسلوكات الاجتماعية.
3- قوانين تنظم ذلك التصاهر والتفاعل السياسي والاقتصادي الذي تنضوي تحته كل أمة من الأمم.
4- قيم ورموز ومعتقدات لتحديد الانتماءات والهويات المشتركة بين أفراد المجتمع.
كل هذه العناصر بما تحمله من معان تشكل أهم الركائز لبناء صرح التربية والتعليم والثقافة الوطنية، وهي ركائز تعتبر حسب المحللين الاجتماعيين أهم إنتاج اجتماعي لكل جماعة أو أمة، وهي كذلك تشكل الرباط المعنوي غير الحسي الذي يحافظ على تماسك أفراد المجتمع ويخلق لديهم شعورا عاما بالوحدة والتجانس والمصير المشترك(1).
ولكي نحافظ على هذه المقومات وغيرها والتي جعلت منا في الماضي أمة إسلامية حضارية قوية وإنسانية، تطرح أمامنا عدة أسئلة لابد من مواجهتها وبكل صراحة حتى نتجنب الوقوع في مخاطر تفرضها علينا هيمنة وهمجية حمى العصر القاتلة الذي نعيشه والتي اصطلح على تسميتها “بالعولمة”.
وهكذا و انطلاقا من الأربع نقط السالفة الذكر نسأل :
-ماذا أعد لنا نظامنا التربوي من برامج للحفاظ على هذه المقومات؟
- هل نظامنا التربوي استطاع أن يرسم لأطفالنا طريقا واضح المعالم للحصول على توازن حقيقي في بناء الشخصية المتوازنة قصد الحفاظ(مع تطوير) على موروثنا التربوي والثقافي والحضاري الذي سبق له أن حكم العالم في ظل التسامح والتعاون والتعايش؟
- إلى أي حد استوعب المسؤولون عن قطاع التربية المخاطر والتهديدات التي تحاك ضد قيمنا الأخلاقية ومفاهيمنا التربوية وهويتنا الثقافية الحيوية والضرورية لتماسكنا المجتمعي المستقبلي سواء على مستوى الأسرة أو المدرسة أو على مستوى الأمة ككل والتي تعمل سوس العصر “العولمة” على نخرها والقضاء عليها بمباركة من أولئك الذين يروجون لها تحت غطاء :
-حتمية التطور البشري
- ضرورة الأخذ بالنموذج الغربي في كل شيء(التحديث-التنمية-الاقتباس…)
- وأخيرا ما مكانة نظامنا التربوي(الإسلامي) من إيديولوجية “العولمة” وما مدى تحديه لها؟
وللجواب على هذه الأسئلة، نرى من الضروري أن نعرف “العولمة” و نسلط الضوء على أبعادها، وكذا تعريف التربية ومدى صمودها أمام التحديات الجديدة؟
< “العولمة” كما عرفها رشيد برهون(2) “مد جارف نحو التوحيد”، بمعنى توحيد الرؤيا والمذهب النظم والسلوك حسب قالب معين يضعه منظرو العولمة وبصيغة أخرى أقول بأن العولمة تعني : انهيار البناء الأصل وإعادة هيكلته حسب ميولاتهم وقوانينهم.
< أما عبد الإله بلقزيز(3) وهو باحث مرموق) فينعتها فيما كتب عن “العولمة والممانعة” بأنها اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنها رديفة الاختراق”.
إذن فالعولمة بهذا “سهم مسموم يهدد سيادة المجتمعات وعلى كل المستويات ما دام الهدف هو القضاء على كيان وقيم ومقومات الآخر.
< أما عند المفكر المستقبلي المغربي و العالمي : المهدي المنجرة(4) :
العولمة بالنسبة إليه “مفهوم جذاب وغني وهي أحد الأسباب الأساسية في صعود العنف وتناسب النزعات، العولمة هي أيضا ذلك الحقل المناسب لمواجهات كونية في شتى المجالات الأكثر حدة، وتهديد لاستمرار الإنسانية على قيد الحياة اللهم إلا إذا تم اتخاذ إجراءات تقويمية عاجلة لتصحيح هذه الاختلالات المتتالية، إن موضوع اللعبة ما هو إلا السلم الكوني لا أقل ولا أكثر”.
وبهذا يمكن القول بأن العولمة هي وجه آخر جديد للاستعمار قوامه استغلال تقنيات الاتصال في ربط العالم وإغراقه بمنتوجات ومفاهيم وقيم مغلوطة يقدمها أئمة الداء الجديد على أنها قيم إنسانية مثلى تتمتع بكامل السيادة.
ورغم اختلاف الرؤى والتعريفات حول موضوع العولمة، فالجميع يتفق على أنها نتاج لتطور تقنيات الاتصال والمعلومات والذي يؤدي إلى :
> تغيير أساليب التفكير والأداء.
> تقريب المسافات بين دول العالم واضمحلال هذه المسافات.
> الضغط على الدول المتخلفة من طرف المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدول حتى تندمج الدول الضعيفة لتصبح دولا مستهلكة لا منتجة مما يؤدي لا محالة إلى إضعاف الموارد الطبيعية وإهدار الطاقات البشرية لهذه الشعوب(واستغلال طاقاتها الظاهرة والباطنة).
من خلال هذه التعاريف المختلفة للعولمة نتساءل :
كيف سيتصدى النظام التربوي في بلادنا لتيار والاغتصاب والاختراق قصد القضاء على ما هو أصلي وأصيل؟
ولتحليل ذلك نعرف مصطلح التربية الذي أصبح مقترنا وبشدة بالتعليم والتي تعبر أول درج على سلم السيادة والمحافظة على كيان الأمة.
إن التربية مشتقة لفظا من ر ب بمعنى أصلح، ورب بمعنى طلا الشيء بمادة ما قصد الحماية من الفساد والتعفن.
وهناك من علماء الاجتماع من يفضل استعمال لفظ “التنشئة” عوض “التربية “لما ي حمله المصطلح من اتساع في المضامين والحقول والآليات.
وقد تناولت هذا اللفظ الكثير من التخصصات انطلاقا من مرجعيتها الخاصة. وتعتبر الأسرة -دور الحضانة(أو المسيد) – الجمعية – الحزب … من القنوات المتعددة التي تمر عبرها التربية بالإضافة إلى ما وصلت إليه التكنولوجية الحديثة من وسائل الاتصال المختلفة والتي يمكن الاطلاع عبرها على ما يجري في العالم دون رقابة أو أدنى تحفظ، وهذا يعتبر من الآليات الجديدة للعولمة(عائشة التاج بتصرف)(5).
ومن هنا تكون المسألة التربوية أهم نقطة للخطاب العولمي لأنها أهم قناة لتمرير مقاصدها و منها ستتمكن من القضاء على المقومات الأصلية للشعوب ومسخ قيمها وهدم كيانها. وهذا يعتبر غزوا جديدا واستعمارا من طراز آخر. لأنهم اقتنعوا أن الغزو العسكري لم يعد له أي جدوى.
طبعا لا يمكن لأي أحد أن يدعي أننا ضد الانفتاح والتواصل مع الآخر لأن روح الإسلام الحقيقية مبنية على التسامح والرحمة : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(سورة الأنبياء).
بهذه الروح السمحة تمكنا في الماضي من كسر الحواجز وتخطي الحدود والأجناس بل وحتى الأديان مصداقا لقوله تعالى :
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن إكرمكم عند الله أتقاكم}(سورة الحجرات).
إنها قمة العالمية ولكن في ل الرحمة والتواصل والانفتاح القائم على الحوار والاحترام لا على التجاهل والاستكبار. وهي حدود رسمها الإسلام ودعا إلى التشبت بها والدفاع عن قيمها بوعي وإدراك عميقين لأنها تمثل ثوابت لا يجوز الاستخفاف بها وهذا ما توضحه الآية الكريمة :
{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إ ذا مثلهم}(سورة النساء)
نلاحظ جميعا كيف أن التصور الإسلامي للعالمية لا يقوم على تهميش الآخر وإبعاد قيمه لأنذلك لا يتماشى ومبدأ الحرية – وحقوق الإنسان- وتقارب الرؤى والمواقف، ومد جسور الحوار البناء . بينما نلمس جميعا كيف أن نظام العولمة الذي علا واستكبر وطغى في عالم مادي قائم على النفعية والطمع بهدف الاستيلاء على كل شيء بغير حق لأنه نظام لا يؤمن “بالحدود” و “لا التنوع” ما دام يستهدف إملاء الشروط والوصايا تحت ذريعة “الإصلاح”.
بخلاف العالمية التي كانت دائما معطى حضاريا إنسانيا قائما على الحوار والإصغاء المتبادل من سائر الأمم والأجناس وكذا الأخذ من ثقافات الشعوب الأخرى مع الاحتفاظ بالخصوصيات التي تميز كل أمة من الأمم وذلك كان سبيل الأمة الإسلامية في عصورها الزاهية إذ نهلت من الحضارة اليونانية والفارسية والهندية وغيرها دون تفريط في قيمها الإسلامية الأصلية ولا غلو في اقتباسها من أمهات الحضارات الإنسانية فعمت بذلك أنواره الأرجاء لأنها آمنت دائما بالتنوع والتعدد والاختلاف مصداقا لقوله عز وجل : {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة}.
وبهذا فالنظام التربوي الإسلامي في عصر العولمة لا يجب عليه أن يقوم على مجرد الموعظة فحسب بل يجب أن يتميز بعمق الفكرة وتكامل المعرفة وتناسق الأفكار، وحب التطلع، ومعرفة الآخر، لأن هذا هو السبيل الوحيد لحماية أطفالنا من مخاطر الاستيلاب الغربي، فنحن لا ننكر أن العصر الذي نعيشه قد تطور لذا وجب إصلاح شؤوننا التربوية في ظل ما تواجهه من ضغوطات العولمة وتحديات العصر بمنح منظومتنا التربوية ما تستحقه من عناية على مستوى الممارسة والمنهج والأهداف.
هذا التحدي الكبير يفرض على المقننين والمشرفين على قطاع التربية مقاطعة ماض تربوي تجاوزه الزمان، وإعادة جدولة أعمالهم في هذا القطاع بجدية ومسؤولية تامة، و كذلك العمل على تحديث وإصلاح النظام التربوي حتى يتمكن أطفالنا من التطلع إلى المستقبل، لأن ما نراه اليوم وما تتمخض عنه كثرة الاجتماعات في هذا الباب هو منظومة تربوية موسومة بضحالة في المضمون، وشح في الفكر، و فراغ مهول في المحتوى، و إطناب في الشكل مما يجعلنا دائما أمام نتائج هزيلة سلبية وضعيفة.
ومن هنا ننادي بضرورة مراجعة المضامين التربوية السائدة والتي هي بعيدة عن التطورات الحاصلة وغير مناسبة لهذا التحول المهول للعلم والتكنولوجيا.
كما أنها تعيش صراعات مع ذاتها حتى إنها لم تستطع أن تحقق هوية متطورة متكاملة ومتطلعة إلى المستقبل. إذ في الوقت الذي تسير فيه أبعادها العقلية والنفسية والبدنية والاجتماعية(اعتماد علماء النفس والتربية المعاصرين لهذه المقومات).
5- انفتاح الخطاب التربوي.
6- الاندماج الفعلي للطفل ليتمكن من مواجهة عالم المعرفة والمعلومات المحيطة به.
7- الابتعاد عن التوجهات المنفردة، والتخلي عن التخطيطات النخبوية ما دام أطفالنا أبناءالوطن الواحد لهم نفس الحقوق في العيش الكريم والتربية المتطلعة والمتوازنة. والتي تناسب مرحلتهم البريئة.
8- رسم منهج قادر على مواجهة العولمة ورياحها الهوجاء مع إيجاد منافذ مبنية على مفاهيم علمية ومنطقية. وتسطير سبل سليمة للتفاعل معها بوعي وإدراك وتبصر.
ذة. فاطمة الرباعي
——-
1 -الثقافة والمجتمع في عصر العولمة الدكتور محمد عبد العزيز ربيع.
2 -درس الترجمة في عصر العولمة وبناء المنفتحة رشيد برهون.
3 -العولمة والممانعة- المعرفة للجميع-ع : 4. ص : 26.
4 -عولمة العولمة : المهدي المنجرة- منشورات الزمن، ع : 18.
5 -بساط التربية بدأ يسحب من تحت أقدام الأسرة : عائشة التاج(جريدة العلم- العدد 13431-أكتوبر 2000.