مدخل : قال تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}(1) وقال أيضا: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً}(2). وقال سبحانه: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}(3) . هذه الآيات وغيرها تفيد أن الإنسان اجتماعي بطبعه ولذلك لم يتركه الله عز وجل وحيداً بل جعل له من جنسه من يسكن إليه ويجتمع معه في ظل نظام الأسرة وهذا النظام يبقى مستمرا ما دام للبشر وجود على وجه البسيطة.
أولا : مفهوم الأسرة في اللغة
قال ابن منظور في مادة”أسر”:أسر الأسرة الدرع الحصينة وأنشد:
والأسرة الحصداء << و المكلل والرماح
و أسر قتبه شده ، ابن سيده : أسره يأسره أسرا و إسارة شده بالإسار. و الإسار ما شد به والجمع أسر… وأسرة الرجل عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم وفي الحديث” زنى رجل في أسرة من الناس “. الأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته”(4).
وجاء في مختار الصحاح ما يلي :”أسَرَهُ الله خلقه وبابه ضرب وشددنا أسرهم أي خلقهم …و أُسْرَةُ الرجل رهطه لأنه يتقوى بهم”(5).
ثانيا: الأسرة في الإسلام
كان الكيان الأسري قائماً عند العرب قبل الإسلام ولكن في ظل أنواع من الزواج تطبعها الفاحشة ، وجاء الإسلام بحنفيته السمحاء ليعيد الأمور إلى الصواب بشرعة عادلة تعيد الحقوق للزوج وللزوجة، وتوفر للأبناء حياة كريمة في ظل أسرة متماسكة الجوانب ، تربطها أواصر المودة و الرحمة قال تعالى : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة}(6) ولم يقصر الله تعالى الأسرة على الزوج والزوجة ولكنه أمدها بالبنين والحفدة قال تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}(7) وبذلك قويت الأسرة في الإسلام واعتبرت المدخل الرئيسي لتغيير المجتمع المكي الذي عرف فوضوية عارمة على كل المستويات قبل نزول القرآن.
ثالثا :دور الأسرة في التغيير الإجتماعي
إن الأسرة هي الخلية الأولى، وهي بذلك تمثل كثيرا من خصائص المجتمع فمنها يتكون المجتمع، ومن المجتمع تتكون الأمة.فـ”دراسة الروابط العائلية الإجتماعية في الأسرة،في تنوعها وتنظيمها،وترتيب الحقوق بين أفرادها،وفي معتقداتها وتقاليدها،وثقافتها لعصر من العصور،تدل على نوعية الحياة العامة لمجتمع ذلك العصر..”(8).
والزواج هو الأساس الذي تُبنى عليه الأسرة في الإسلام، لذلك كان اختيار الزوجة واختيار الزوج من الأمور المهمة جداً قبل الإقدام على تكوين الأسرة ،فالزوجة تصبح أما والزوج أبا ،و انطلاقا من الحديث النبوي الشريف: {كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته}(9) . فان مسؤولية كل من الأم والأب في التغيير الاجتماعي ذات أهمية قصوى، ويمكن تناولها ضمن العناصر التالية:
أ- دور الأم في التغيير الاجتماعي
تتنوع مسؤولية الأم في التغيير الاجتماعي داخل الأسرة إلى ما يلي:
1- تربية الأولاد :
المرأة تُمثل نصف المجتمع وهي مدرسة، يقول الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراق
فالأم هي مربية النشء ومالكة زمام أمره، والأمومة هي المهمة التي أسندها الله إليها وذلك لما تحمله من أوصاف الرقة والحنان والعطف،ولكونها الموضوع الأول التي يلتصق به الطفل في مراحل حياته الأولى.
فعليها أن تحرص ألا تأمر بما تذهب هي إلى ما يخالفه، فإن ذلك سينعكس على سلوك الولد،ولكون الطفل يكتسب كل شيء من الأم – وأخلاقه ما هي إلا انعكاس لأخلاقها
فالطفل كما يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-”مائل إلى كل ما يمال إليه،فان عود الخير وعلمه، نشا عليه،وسعد في الدنيا والآخرة …وان عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له.”10 فالأم ملزمة بتعويد طفلها على سماع الكلمة الطيبة وتنفيره من الكلمة الخبيثة وغرس الأخلاق الحميدة في نفسه: كالصدق والوفاء والإيثار وحب الآخرين…الخ وذلك بشكل دائم،فكثير من الأخلاق تتكون في السنين الأولى من حياة الطفل، ثم تتعمق بعد ذلك من خلال الممارسات المتكررة والاحتكاك بالآخرين، لأن الأخلاق تظهر في نطاق الجماعة البشرية.
من هنا كانت مرحلة التغيير الاجتماعي لا بد أن تبدأ من الصبيان، وبالتالي يمكننا مدُّ المجتمع بعناصر صالحة تكون عاملاً أساسياً في إحداث التغيير. قال سبحانه وتعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(11) وقال أيضا : {ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(12). و لاشك أن تغيير النفس هو المدخل الرئيسي لتغيير ما بالمجتمع من رذائل وفواحش. و أن التغيير إذا تمّ على صعيد الوالدين فان ذلك سيتحول إلى الأبناء الذين سوف يكونون هم رواد المستقبل وصانعو مصير الأمة ومن هنا ندرك مكانة الأم في المجتمع البشري.
2- الحفاظ على الترابط الأسري :
ليست الأم مسؤولة فقط عن تربية الولد ولكن أيضا عن تماسك الأسرة ،لأن ترابطها يعني ترابط المجتمع الكبير ،فتربيتها للطفل تحتم عليه أن تكون هي رفيقه الدائم في الحل والترحال، و هذا ما يجعله مكتسبا لأنواع من السلوكيات التي تمكنه من معايشة المجتمع بدءا من إخوته الذين يلازمونه صباح مساء ، فالأم مدعوة لتكوين التعاطف بين الإخوة والتعاون والتضحية والإيثار وكل الأخلاق الاجتماعية لديهم ، وكذلك مسؤولة عن إعطاءهم التعليمات التي تمكنهم من التعامل مع الأقارب و الجيران وأصدقاء الدراسة فعليها تعويد أبناءها على الاختلاط بالناس، وتجنبهم العزلة والانطواء ،و تمكينهم من الآداب الاجتماعية كآداب السلام والاستئذان والحديث والتهنئة والتعزية وعيادة المريض في إطار العلاقات الإنسانية،مسترشدة في ذلك بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من توجيهات قيمة.قال تعالى : {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمُّك بَغِيّا}(13)، حتى يخرجوا بعد ذلك إلى المجتمع الكبير بعد أن يتقدم بهم السن،وتتسع معارفهم وقد حملوا أمانة تغيير المجتمع، وليتحقق فيهم قول الله تعالى:(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)14.لهذا فان الأم هي العامل الأساسي في إيجاد عنصر الترابط الأسري سواء داخل الأسرة الصغيرة التي هي(الأب والأم والأبناء)أو داخل الأسرة العريضة التي هي المجتمع.ولكن أي فشل للأم في أداء هذا الدور الخطير،فان فالولد سيصبح عالة على المجتمع،وسيكون التغيير سلبيا.
ب- دور الأب في التغيير الاجتماعي
لا يقل دور الأب عن دور الأم في التغيير الاجتماعي، فالمسؤوليات الملقاة على عاتقه متنوعة ،ونذكر منها:
1- توجيه الرعية :
المطلوب من الرجل أن يكون قواما على المرأة، وأن يعنى أيضاً بالأنشطة خارج البيت،وأن يقوم بدوره كاملا في التغيير الاجتماعي الذي يبدأ من الطفل.ومسؤوليته لا تقل خطورة عن مسؤولية المرأة.
و قوله صلى الله عليه وسلم: >مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء السبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع<(15) ما هو الا أمرا للآباء بالدرجة الأولى ليعودوا رعيتهم على محاسن الأفعال وان اقتضى الأمر الضرب. وما تشريعاته عليه السلام في مجال الأخلاق :الصدق والأمانة و الإيثار وحب الغير…الخ وتحذيراته من مساوئ الأخلاق كالسرقة والكذب والخيانة والسباب والشتائم …الخ الا دروبا منيرة نحو التغيير الاجتماعي المنشود،داخل خير امة أخرجت للناس.وعاملا من عوامل المحافظة على الفطرة. قال صلى الله عليه وسلم: >كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أويُنصّرانه أو يمجّسانه<(16) .
2- الحفاظ على تماسك الأسرة:
لابد من تكامل دور الأب ودور الأم لتحقيق التغيير الإجتماعي ،لان العلاقة بين الأم والأب ستنعكس على سلوك الطفل ونفسيته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.وقد بينت دراسات وأبحاث اجتماعية أن “هناك حالات أساسية للعلاقات الأبوية،قد توجه سلوك الطفل نحو الانحراف مستقبلا هي :
أولا:انفصال الأبوين:الطلاق، الهجر أو سوء المعاملة.
ثانيا:غياب الأب:الوفاة، الهجرة أو السفر الطويل المتكرر.
ثالثا : ضعف الدور الأبوي:موقف الأب المتسلط، الأب غير المبالي.
رابعا:توتر العلاقات بين الأبوين الذي يؤدي إلى الانحراف وفقدان المحبة والتفاهم بين أفراد الأسرة”(17).
ولنا أن نفهم دور الأب”إذا ما حللناه من خلال علاقة إعجاب الطفل به لدينامية هذه العاطفة ومظهرها الايجابي.فالقول بتبلور الحياة العاطفية للطفل في علاقته بالأب انطلاقا من عاطفة الإعجاب،معناه التركيز على دور هذه العلاقة في تنمية الجانب الاجتماعي في شخصية الطفل”(18).
وخلاصة القول أن الأسرة الإسلامية اليوم مطالبة وأكثر من أي وقت مضى بالتغيير الإجتماعي، ومواجهة الخطط الدولية التي تسعى جاهدة إلى الانتقال بمجتمعات العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة إلى وضع الدرك الأسفل، وذلك بتفكيك بنيانهاالمرصوص- الذي يشد بعضه بعضا- تحت غطاء ما يسمى بـ”العولمة”.وهذه المواجهة لا تتأتى لها الا بالتشبت بمكارم الأخلاق التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف.
ذ. عبد الحميد أقاسي
—————
1 – البقرة : 35. // 2 – النساء : 1.
3 – الأعراف : 189.
4 – لسان العرب- ابن منظور-4/20-دار صادر -الطبعة الرابعة
5 – مختار الصحاح-أبو بكر الرازي–ص7
6 -سورة الروم : 21. // 7 -سورة النحل : 72.
8 – عواطف الطفل -مبارك ربيع ص23-الدار العربية للكتاب-1984م // 9 -رواه البخاري ومسلم.
10 -إحياء علوم الدين-أبو حامد الغزالي-ج3-ص64-طبعة 1995-دار الفكر-بيروت
11 – الرعد : 11. // 12 – الأنفال : 53.
13 - مريم : 28. // 14 – المؤمنون : 8.
15 رواه أبو داود // 16- رواه البخاري.
17 – العلاقات الأبوية وتوجيه سلوك الطفل-د.تما ضر حسون-مجلة الفيصل -العدد197-ص95-سنة1993م
18 -عواطف الطفل-ص69