يقول الله تعالى في محكم كتابه : {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}(النساء : 100)وفي السنة المطهرة فيما رواه مسلم عن يعلا بن أمية قال : قلت لعمر رضي الله عنه مالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : >صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته<.
وحديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : >إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطْر الصلاة<.
انطلاقا من هذه النصوص الشرعية الكريمة يبدو جليا أن قصر الصلاة في السفر منحة إلهية تكرم بها على عباده، شفقة عليهم من نصب السفر، ورأفة ورحمة بهم لما يلاقونه أثناء الظعن والترحال، فسبحان من سمى نفسه الرؤوف الرحيم.
من المعلوم أن قصر الصلاة في السفر، لا يكون إلا في الصلاة الرباعية فتصلى ركعتين بالفاتحة والسورة، أما المغرب والصبح فلا تقصران لكون المغرب ثلاثية، والصبح ثنائية.
وفيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال : صحِبْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين،و أبى بكر وعمر وعثمان كذلك.
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إماماً بأهل مكة بعد الهجرة صلاة رباعية، فسلم على رأس ركعتين، ثم التفت إلى القوم فقال : >أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ<.
وقد قال ابن القيم : “وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أتم الصلاة الرباعية، ولم يختلف في ذلك أحد من الأئمة.. أما حكمه فقد اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال: أنه فرض. وعند المالكية، أنه سنة مؤكدة. لما رواه أبو مصعب عن مالك أنه سنة، وهو المشهور، لقوله تعالى :{ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ونفي الجناح يدل على عدم الوجوب وفي هذا المضمار قام أحد العلماء الاجلاء بنظم ما يلي :
القصرُ واجبٌ عند النعمانِ << وعدد كثُرَ من فرسانِ
ومالكٌ والشافعي وأحمدُ << عَدُّوه رحصة وذا المعتمدُ
وقد اختلفوا أيضا، في أيهما أفضل؟ فقال بعضهم القصر أفضل، وقال البعض الآخر، الإتمام أفضل، وحكى أبو سعيد الفرْويّ المالكي، أن الصحيح في مذهب مالك، التخيير للمسافر في الإتمام والقصر.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : >خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان، فأفطر وصمتُ، وقصر وأتممتُ، فقلت بأبي وأمي أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ وأتممتُ فقال : >أحسنتِ يا عائشة<(رواه النسائي والدارقطني وقال حسن والبيهقي)، وقال في المعرفة إنه صحيح الإسناد، ولم يقع في رواية النسائي عمرة في رمضان وهي وهم ممن ذكرها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منها شيء في رمضان بل كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته، فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة.
وعلى هذا، فالمسافر إذا أتم صلاته الرباعية عمدا أو جهلا فصلاته صحيحة، ويستحب إعادتها حال بقاء الوقت، وإن أتمها سهوا سجد للسهو وأعاد.
وعلى كل، إن توفرت شروط القصر، فالمرء مخير بين القصر والإتمام، وحتى تنال محبة الله ورضاه، ينبغي للمسافر قصر الصلاة إذا تجاوز المسافة المطلوبة، سواء كان راجلا أو راكبا، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه< أما سبب القصر، فهو السفر الطويل، وهو مسافة أربعة برد، أي ما يساوي ثمانية وأربعين(48) ميلا، أي حوالي 88 كيلومترا تقريبا، والمعتبر شرعا المسافة، لا الزمن الذي تقطع فيه المسافة. فالمسافر في أي وسيلة من وسائل النقل الحديثة يقصر الصلاة، شريطة أن تكون مسافة سفره مسافة قصر، وإن نية القصر تكفي في أول صلاة يقصرها المسافر، ولا يلزمه تجديد النية فيما تبقى من الصلوات.
شروط القصر
< عزم المسافر على قطع مسافة القصر دفعة واحدة دون تردد، فلا يُسَنُّ القصر في حق من هام على وجهه دون قصد أو بلوغ مرام.
< ألا يقيم في هذه المسافة المراد قطعها إقامة توجب الإتمام كأربعة أيام فأكثر.
< أن يكون السفر مباحا شرعا، كالتجارة والحج والعمرة وصلة الرحم وما شابه هذا، فلا تقصير للعاصي بسفره كالباغي وقاطع الطريق وما شباههما.
< من كان سفره قصد اللهو، يكره في حقه القصر.
< الشروع في السفر، فالحضري يقصر إذا جاوز البساتين المعمورة بعمارة بلده، وساكن البادية يقصر إذا جاوز بيوت القرية.
قطع القصر
يقطع حكم السفر، ويمنع القصر نية إقامة أربعة أيام أو العلم بها من قبل بشرطين اثنين هما :
أ- أن تكون الأيام الأربعة تامة، ولا يحتسب منها يوم الدخول أن دخل بعد الفجر، ولايوم الخروج إن خرج أثناءه.
ب- وجوب عشرين صلاة عليه في إقامته، فلو أقام أربعة أيام تامة، وكان عارفاً أنه سوف يخرج بعد غروب الشمس من اليوم الرابع، فإنه يقصر، ولذلك لعدم وجوب عشرين صلاة عليه. وعلى هذا فإن المقيم لحاجة حتى إذا قضيت سافر، فإنه يقصر ولو طالت إقامته أكثر من أربعة أيام، شريطة ألا يكون متأكدا من إقامة أربعة أيام من قبل لقضاء حاجته.
فإتمام الصلاة يكون بالنية خاصة، وأما القصر فلا يكون إلا بالنية والفعل، وهو تعدي البساتين المسكونة.
حكم اقتداء المسافر بالمقيم والعكس
يصح اقتداء المقيم بالمسافر مع الكراهة، وقيل لا كراهة في ذلك، وإلى هذا أشار أحد العلماء بقوله :
إذا اقتدى المقيم بالمسافر << ليس بمكروه وهذا الظاهرْ
لقول خير الخلق صلوا أربعا << فاننا سفْرٌ تعلمْ واتبعا
كما يصح اقتداء المسافر بالمقيم والكراهة أشد، إذا اقتدى المسافر بالمقيم وجب اتباعه إذا أدرك معه ركعة كاملة، أما إذا لم يدرك المسافر مع المقيم ركعة كاملة فلا يجب عليه الإتمام، بل يقصر، لأن المأمومية لا تتحقق إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام.
وإذا اقتدى المقيم بالمسافر فكل على حكمه، المقيم يتم والمسافر يقصر.
وإذا اقتدى المسافر بالمقيم، اتبعه وأعاد الصلاة مادام الوقت باقيا نظرا للكراهة المذكورة سالفا.
وإلى الحكم السالف الذكر قام بعض العلماء بنظم الأبيات التالية :
صلاة حاضرون المسافر << جائزة بلا خلاف ظاهر
والعكس لا تصح فيه عندَ << جماعة، والظاهري المفَذَى
ومالك كَره الاقتداءَ << في الصورتين انظرْه معْ ما جَاءَ
كل على سنته في الأول << والثان حتم تمه وهو الجلي
وقيل بل ينتظر الإتمام << مسلما من بعده سلاما
وإن ظنّ المسافر أن الإمام مسافر فاقتدى به، ثم ظهر أنه مقيم، أو ظن أنه مقيم فاقتدى به فظهر أنه مسافر، أعاد الصلاة أبدا لبطلانها.
ذ. محمد حطاني