إذا أردنا أن نغتنم الأزمة التي حلت بعد 11 سبتمبر ونحولها إلى فرصة لمراجعة ملف العمل الإسلامي، فسنجد أن به أمورا عدة تحتاج إلى تصويب وإعادة نظر. ولا أخفي إنني استثار حرجا في إطلاق تلك الدعوة إلى المراجعة، لا لأنها تحتاج إلى مصارحة وجرأة في نقد الذات، فذلك شأن مقدور عليه، وإنما لأنها تتزامن مع مطلب أمريكي ملح لإجرائها، بأساليب أخرى، ولمقاصد أخرى، وهذا أسوأ ما في الأمر. وهو بُعد في المسألة ينبغي تحريره قبل أي دخول في الموضوع.
عواقب التضييق على خط الاعتدال
في مراجعة ملف التطرف الإسلامي يتعين التفرقة بين دائرتين أو معسكرين، معسكر المتطرفين الذين يركنون إلى العنف الفكري (التكفير) أو العنف المادي (السلاح) في محاولة تغيير الواقع، ومعسكر المعتدلين الذين انحازوا إلى مبدأ التغيير السلمي أو حصروا أنشطتهمفي العمل الدعوى، وقبل أن نطل على الفريقين ينبغي أن نعترف بان التطرف لم يجد له موطئ قدم، ولم يثبت له حضور ولم يتمدد على خرائطنا، إلا في أجواء الفراغ الذي نشأ عن حجب الاعتدال، ذلك أن للناس أشواقا إيمانية لا بد أن تلبى، والمجتمع بخير طالما نهضت بتلك المهمة استجاباته الطبيعية والمعتدلة، أما إذا صودرت تلك الاستجابات أو قمعت، فسوف تلبي تلك الأشواق استجابات أخرى تتحرك في الخفاء ، وتتعامل مع مرحلة القمع بالفكر المتحدي الذي يناسبها.
إن الفكر السلفي بمفهومه الاصطلاحي الحديث لم يعرف له طريقا إلى مصر مثلا إلا حينما صودرت حركة جماعات الاعتدال وجرى إضعاف الأزهر، ووجد فيه بعض الشبان الذين خرجوا من معاناة السجون في السبعينيات ذخيرة اغترفوا منها أفكار التفسيق والجاهلية والتكفير وكراهية غير المسلمين، وهي الألغام التي تفجرت في وجوه الجميع في وقت لاحق.
ولا مفر من الاعتراف أيضابان اخطر تحول حدث في الساحة الإسلامية، المصرية على الأقل، هو ذلك الذي وقع في السبعينيات، في ظروف تحتاج إلى دراسة، حيث دفع السلفيون بفكرهم الذي يستسهل التكفير تحت وطأة الضغوط الأمنية إلى التحالف مع الانقلابيين الذين لجأوا إلى السلاح والعمل السري (اقصد الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد)، وكان قتل الرئيس السادات من ثمرة ذلك التحالف. ثم تبلورت صيغته أخيرا في تنظيم “القاعدة” الذي قاده سلفي “أسامة بن لادن” مع رمز انقلابي هو الدكتور ايمن الظواهري.
المشهد الأفغاني الأخير جاء إعلانا عن بؤس وفشل ذلك التحالف، المئات أو الآلاف الذين توزعت جثثهم المتفحمة والمشوهة بين قلعة جانجي وكهوف تورا بورا، والذين سحلوا منهم في كابول ومزار الشريف، والذين عاشوا منهم اصبحوا مطاردين أو معوقين، ناهيك عما أصاب زوجاتهم وأبناءهم من تشرد وقهر، ذلك المصير فيه درس وعبرة، وهو بمثابة إشهار إفلاس النهج السلفي الانقلابي، وهو المشروع الذي يتحمل دعاته أمام الله وزر إفناء وتدمير مستقبل أجيال من الشباب النادر، الذي كان يمكن أن يخدم قضيته وأمته على نحو أفضل بكثير، لو أن عطاءه وطاقاته وظفت في الاتجاه الصحيح.
من آسف أن التطرف اصبح الأكثر حضورا في الساحة الإعلامية، لا بسبب حجمه أو قوته في الشارع العربي، ولكن لما يثيره من ضجيج وما يسببه من فواجع، وما يسلط عليه بالتالي من أضواء، ويتضاعف الأسف حين يلاحظ الباحث أن الاهتمام بالتطرف يستصحب تجاهلا وعدم اكتراث بالاعتدال، وبسبب هذا الخلل في الموازين انقلبت الأمور، وتصور البعض أن التطرف هو الأصل وان الاعتدال استثناء عابر، وان أسامة بن لادن هو الممثل الشرعي الوحيد للمشروع والحلم الإسلاميين.
وإذ نزعم أن الاعتدال لا يزال هو الأصل في العالم العربي والإسلامي، وهو الأقرب إلى طبائع المسلمين وفطرة البشر بوجه عام، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن نشطاءه أحوج إلى الرعاية واجدر بالاهتمام، وفي مراجعة ما يخصهم في ملف العمل الإسلامي يلحظ المرء أمورا عدة منها:
? انهم شغلوا بما سمي بالإسلام السياسي، بأكثر مما شغلوا بوجهيه الاجتماعي والحضاري، ولست هنا أدعو إلى إخراج الشأن السياسي من المعادلة، ولكن أتحدث عن ترتيب أولويات المشروع، ناهيك عن مقتضيات الحكمة وحسن التقدير، ولا بد هنا من التذكير بان بناء الدولة الإسلامية في العصر النبوي لم يقم إلا بعد عشر سنوات أمضاها النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، وهو يضع الأساس الإيماني والقيمي والحضاري.
ولست أتردد هنا في القول بان قطاعا عريضا من النشطاء الإسلاميين في زماننا استغرقهم العمل السياسي، وتطلعوا إلى تغيير المجتمع من قمته، في حين تراجع لديهم الاهتمام بالقيم الأخلاقية والحضارية، ومن تجارب عدة ثبت أن التغيير الفوقي هو محاولة عبثية لإقامة بناء بغير أساس،وحين يتعلق الأمر بالبنيان الإسلامي بوجه أخص، الذي قوامه الهداية ومكارم الأخلاق، فان غض الطرف عن ذلك الأساس يعد جريمة في حق المشروع.
ان قليلين هم الذين يقدمون أنفسهم بالخلق الكريم والصدق والوفاء والإتقان والنظافة واحترام الأوقات والمواعيد، بينما تؤثر الأغلبية أن تعلن عن نفسها بالصياح والضجيج واللافتات والإسراف في المظاهر الإيمانية.
الذين شغلوا بالعمل السياسي، ووقعوا في خطيئة استهداف تغيير السلطة قبل تغيير المجتمع، ارتكبوا خطأ آخر، هو انهم تعلقوا بالهدف النهائي، في عجلة غير حميدة، ولم يحسنوا التعامل مع نهج التدرج والأهداف المرحلية، فمدوا بصرهم إلى الأقصى، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البدء بالأدنى، والتقدم منه لبلوغ النموذج المطلوب. فألحوا مثلا على تطبيق الشريعة، وجعلوه عنوانا كبيرا لأنشطتهم، دون أن يشغلوا أنفسهم بالدفاع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، والأولى هدف نهائي قد تختلف بعض عناصر النخبة حوله، بينما الثانية هدف مرحلي لا يكاد يختلف عليه أحد.
انهم في العمل العام قدموا الولاء للجماعة على الولاء للقيمة، فحرصوا على أن يتخندقوا في دوائرهم ويعملوا مع نظرائهم، الأمر الذي أدى إلى وفاصلتهم للآخرين، ولم يمكنهم من الوقوف على المشترك الذي يقاسمهم غيرهم فيه، فظلوا يتحركون على صعيد فئوي، ولم يحسنوا مد الأيدي لغيرهم، والعمل على المستوى الوطني في الدفاع عن القيم والمقاصد العليا للمجتمع، وكانت النتيجة انهم شغلوا بانتصار الحركة او الجماعة، ولم يكترثوا بارتقاء الأمة. أدري أن هذا الكلام ليس ما يريده الأمريكيون، وليس مما يرحب به النشطاء الإسلاميون المنخرطون في جماعات عاملة بالساحة، ولكنها محاولة للتعامل مع الملف من وجهة نظر ليست معنية بإسعاد هذا الطرف أو ذاك، وانما ترى أن المجاملة في مثل هذه الأمور جناية على الحاضر والمستقبل، ناهيك عن أننا إذا لم نغير من أنفسنا ونصحح أخطاءنا فسنجد أن هناك من يتربص لكي يفرض علينا التغيير الذي يراه ملبياً لأهدافه ومصالحه.
فهمي هويدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ü) كاتب وصحفي مصري والمقال نشر بجريدة الوطن الكويتية