السلطة في الإسلام -وفي النُّظُم الحديثة- وسيلة لتحقيق مصلحة عامة، قال عز وجل لنبي الله داود عليه الصلاة والسلام {يَادَاوُدُ إنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْن النّاسِ بالحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه إنّ الذِين يَضِلُّون عن سَبِيل الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِساب}(ص : 25) فالفصْلُ بالحق بين الناس في كل شؤون الحياة حتى يَسُود الأمْنُ والاستقرار هو الغاية الكبرى للاستخلاف.
وكان الأمرُ صريحاً لمحمد عليه الصلاة والسلام بالحكم بين الناس بما أنزل الله تعالى -وهو الحق- ولم يكتف الله تعالى بالأمر الصريح فقط، بل أتبعه بالنّهْيِ أيضا عن اتباع أهواء الناس، كما أتبعه بالتحذير من الافتتان عن الحق النازل، وبالتهديد للمُعْرِضين عن اتّباع الحق بالعذاب الشديد {وأنُ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أنْزَلَ اللّهُ ولاَ تَتَّبِع أهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أنْ يَفْتِنُوك عن بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ فإن تَوَلَّواْ فاعْلَمْ أنّما يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُصِيبَهُم ببَعْضِ ذُنُوبِهم وإنّ كَثِيراً من النّاسِ لَفَاسِقُون}(المائدة : 51).
ولقد سار الرسول صلى عليه وسلم على هذا المنهج فأوصى بعدم سؤال الحكم والمنصب قال : >يا عَبْد الرّحمان بن سَمُرة لا تَسْأل الإمَارة فإنّك إنْ أُعْطِيتَها عن غير مسْألةٍ أعِنْت علَيْها، وإنْ أُعْطيتَها عنْ مَسْأَلة وُكِّلْتَ إِلَيها<(متفق عليه) ومَنَع أناساً من الإمارة عندما طلبوها، وقال : >إنّا لا نُوَلِّي هذا العملَ أحداً طلبَه أو أحداً حَرَصَ عليه<(متفق عليه). والسبب في هذا الحِرمان والمنع واضح، لأن من يطلُب الشيء يطلبُه لغاية في نفسه، وهي تحقيق المصلحة الخاصة، والحكم وسيلة لتحقيق المصلحة العامة.
والوصول للحكم لتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة هو ما يُسَمَّى “الحكم الدكتاتوري” الذي ما حلَّ ببلدٍ إلاّ وحَلّتْ معه البلايا والمصائب، على رأسها :
1) استعباد الشعوب وجعلها كلها في خدمة الحاكم بَدَل أن يكون الحاكم خادما لها.
2) خنق الحريات، وخصوصا حرية التعبير حتى لا يُفْسح المجال إلا للمسبحين بحمد الحاكم.
3) إشاعة الخوف وقتل الرجولة والطموح.
4) انتشار النفاق والمحسوبية والمحاباة والتزوير والاحتكار لكل شيء، وبذلك يسود الجمود الفكري والعلمي والاقتصادي والسياسي.
وإذا كانت شعوب الدنيا تعلمت من الإسلام فما بَالُ قومِنَا العرب لم يتعلموا لا من الإسلام ولا من الواقع الحضاري الذي أصبح يمقت الديكتاتورية، ولذلك طلقها بالثلاث من زمان، بينما قومنا مازال كل واحد منا وصل إلى الحكم يُفصّل الدساتير على قدّ هواه ليستديم الجلوس على الكرسي، فكل الناس يعرفون تداوُل السلط والمناصب الذي يصحبه التجدُّد الشامل، إلا قومنا فإنهم لا يعرفون التسليم للسلطة إلا عن طريق الموت الطبيعي أو الانقلابي. و الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي يتم من الرأس، فمتى تنصلح رؤوسنا لتنصلح قواعدها، ومتى تُتاح الفرصة لشعوبنا كيْ تُرَكِّبَ لنفسها رؤوسا ترضيها.