قد أصبحت فكرة مغربة الإدارة مهمة خاصة مضافة إلى وزير الوظيفة العمومية في الحكومة الحالية، وهذا الاتجاه الجديد كان نظرا وأملا من آمال الوطنية الصادقة، فأخرج الآن إلى حيز العمل والتطبيق، وصادف في واقع حياة المغاربة استحسانا كبيرا، نرجو أن يتبع في القريب بمهمة تعريب الإدارة، حتى تصير إدارة مغربية عربية بمعنى الكلمة التام.
ويجمل بنا ازاء هذا الطور الانتقالي في المغرب أن نلقي نظرة عابرة خاصة على نظر الإسلام وعمل سلفنا الصالح في تخصيص أعمال الولايات الإسلامية بأهل الإسلام النزهاء، دون الأجانب الدخلاء، فمن المعلوم أن الوظائف أمانة يجب أن يختار لها أكفاء هذه الأمانة الذين يؤدونها على وجهها، أما من تدينوا بأنه ليس عليهم في الأميين سبيل فلا وجه لتكليفهم بأي شيء من الشؤون التي لا يرون من الحق أداء الأمانة والنصيحة فيها، وقد مر على المسلمين في عهد الفتوح الأولى قبل تمكن المسلمين من ضبط الدواوين أطوار كانوا فيها شبه عاجزين عن إدارة شؤون ولاية الخراج وضبط أعمال الدولة، فكان أئمة الإسلام يعملون جهدهم حتى لا يتولاها إلا مسلمون أمناء مخلصون، فروى الإمام أحمد عن عمر ] قال : >لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم يستحلون الرشاء في دينهم ولا تحل الرشاء<.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال : قلت لعمر ] : إن لي كاتبا نصرانيا، قال مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض}، ألا اتخذت حنيفيا قال : قلت يا أمير المؤمين لي كتابته وله دينه، قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهمإذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم (أي أبعدهم) الله، انتهى كلامه، وذكر في كتاب الآداب الشرعية ما جرى بين خالد وعمر حيث كتب إليه خالد بن الوليد، أن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به، فكتب إليه لا تستعمله، فأعاد عليه السؤال وإنا محتاجون إليه، فكتب إليه مات النصراني والسلام، يعني قدر موته، ولهذه المبالغة في الاحتياط ما يبررها في أرض الشام كما ذكر في تعليل هذه النفرة منهم، فإن النصراني بالشام يتدين بخذلان الجند وغشهم، يرى أنهم ظالمون، وأن الأرض مستحقة للنصارى، ويتمنى أن يتملكها النصارى، وذكر عن صلاح الدين وأهل بيته أنهم لم يكونوا يستعملون منهم أحدا، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل، حتى قام بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين، وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله.
وروى أحمد والنسائي وعبد بن حميد وغيرهم : لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في خواتمكم عربيا، أي لا تستشيروهم ولا تأخذوا آراءهم، جعل الضوء مثلا للرأي عند الحيرة، وقوله ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال الحسن أي لا تنقشوا فيها محمدا، وفسره غيره محمد رسول الله لأنه كان نقش خاتم النبي، وذكر الشيخ الرهوني في حاشيته على الزرقاني في باب الوكالة نقلا عن اللخمي ما نصه، قال مالك في كتاب ابن حبيب : ولا ينبغي للحافظ لدينه أن يشارك إلا أهل الدين والأمانة والتوقي للخيانة والربا والتخليط في التجارة ولا يشارك يهوديا ولا نصرانيا ولا مسلما فاجرا إلا أن يكون هو الذي يلي البيع والشراء والمال ولا يلي الآخر فيه إلا البطش والعمل، وإذا كانت الوصية بهذا الاحتياط في الأمور الخاصة فأحرى أن يحتاط في الأمور العامة وعلى هذا نذكر ما نقله الحافط ابن عبد البر عن ابن القاسم : سئل مالك عن النصراني يستكتب؟ قال لا أرى ذلك، وذلك أن الكاتب يستشار، فيستشار النصراني في أمر المسلمين؟ ما يعجبني أن يستكتب، وذكر ابن عبد البر أنه استأذن على المامون بعض شيوخ الفقهاء فأذن له فلما دخل رأى بين يديه رجلا يهوديا كاتبا، كانت له عنده منزلة وقربة لما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته، فلما رآه الفقيه قال : وقد كان المامون أومأ إليه بالجلوس فقال : أتأذن لي يا أمير المومنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس، قال : نعم، فأنشده :
إن الذي شرفت من أجله
يزعم هذا أنه كاذب
وأشار إلى اليهودي فخجل المامون ووجم، ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوبا على وجهه، فأنفذ عهدا بإطراحه وإبعاده، وأن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله.
هذا وإن مغربة الإدارة التي كلف صاحب الجلالة بها وزير الوظيفة العمومية لتحقق جزءاً هاما من أنظار السلف في عدم تولية الذين لا يخلصون النصيحة للمسلمين من الأجانب، خصوصا الذين وقعت الشبهة القوية في عدم إخلاصهم، على أن بعض الصهاينة الذين يكونون جمعيات سرية لمساعدة دويلة اسرائيل على طرد العرب من ديارهم وتشريدهم في الآفاق هؤلاء يجب أخذ الحيطة والحذر من أعمالهم، فإن المغاربة المسلمين متضامنون مع العرب وجامعتهم العتيدة كل التضامن.
ومن السهر على مصالح الأمة العليا أن لا يسند تدبيرها إلا للمخلصين من أبناء الأمة ولا تسند لغير المخلصين، فأحرى وأولى في الاحتياط أن لا تسند لغيرهم ممن لا يوثق بهم، وعلى هذه الأسس السليمة بنيت قواعد الإدارة السليمة في الدول الإسلامية على مختلف العصور، وكل المسلمين يومنون بقول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يالونكم خبالا، ودوا ما عنتم} -والخبال الشر والفساد- وقوله : ودوا ما عنتم، أي يودون ما يشق عليهم من الضر والشر والهلاك، ثم قال الله تعالى : {قد بدت البغضاء منأفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}.
وفي هذا الحديث بيان لمن سأل عن موقف الإسلام من أعمال بعض الصهاينة في المغرب والله ولي المومنين.
العلامة محمد الطنجي رحمه الله
———–
الشيخ العلامة محمد الطنجي مدير عام للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف منذ الاستقلال إلى وفاته، من مواليد 1900 تقريبا، توفي منذ حوالي12 سنة، درس بالقرويين، والأزهر الشريف، خطيب مفوه وكاتب بارع ومجاهد شجاع سجنه الإسبان في سبتة، وعاش محارباً من الاستعمار، كان له تأثير في الشباب بتطوان بخطبه المنبرية
دعوة الحق : ع 10 السنة 3