توسمات جارحة: حين تزهر أوراق السفر


إلى سليم في معاناته المبرعمة للصحو الجميل تطلعت إلى السماء، بدت لي النجوم المضيئة بعيدة , نائية خلف نواميس أبدية  ترتشف برقا، وتضعني وجها لوجه مع البكاء .لم تدهشني الدموع التي انهمرت شلالا تحاول غسل الأحزان المتراكمة، فمنذ أن اعتراني الفضول وشدني إلى تفاصيل الحياة وأنا أدمن البكاء ..أحيانا يأتيني على شكل دموع نسائية تستعين بتواطؤ أنثوي لتنبت الضعف وشرعية الاستسلام، وأحيانا يأتيني على شكل نافورة فوارة تكتسح الأوجاع المتناثرة على صفحـات الذات , وتسقى تمردا أخضرا حتى يزدهر أكثر من قوس قزح .

فكرت أن إحساس الشاعر الجاهلي بالليـل صائبة :

وليل كموح البحر أرخى سدوله

علي بأنواع الهموم ليبتلي

فكلني يا أعز حبيب لهم وليل أقاسيه سريع الكواكب لأتربع في عينيك وأسند رأسي المحموم في صدرك ..

غزتني ابتسامة حزينة، فالشعر يداهمني بحزمات من الضوء ويكاد يغويني لأهيم في الملكوت الأرجواني، وأنا وحيدة.. تلهب الآلام مرمى بصري  وتستبيح ذاتي في مواسم الجفاف ..

لم يبق على آذان الفجر سوى  لحظات حين سمعته يخرج من غرفته بهدوء , شعرت لحظتها كم سأفتقد هدوءه ,, كم سأفتقد ابتسامته الحييـة التي لا تفارق وجهه ,, سأفتقد ذلك البوح الذي يختزله أيامــا في صدره قبل أن يتدفق بغزارة فأتلقاه في صدري وأعيش معه  همومه ومشكلاته , وأغوص وراء آماله وأحلامه .. تساءلت بمرارة : هل ستظل تستحضر لحظات البوح والتدفق في غربتك يا حبيبي  ؟ وهل ستكتمها في نفسك حتى ترجع إلي ؟ ..

تناول فطوره بصمت  متحاشيا النظر إلي , ماذا سيحل بي يا أعز حبيب  ؟

ضممته إلى صدري بقوة وكأني لا أريد تركه أبدا .. دفنت رأسي في عنقه ووددت لو توقف الزمن وأنت بين أحضاني يا أعز حبيب لأشم بقايا من طفولتك، وأتتبع مجرى الحلبيب الذي ألقمتك إياه ليسلمني إلى مرسى الرجولـة في عينيك .. تشدني من كتفي وتقول :” أمي ادعي لي فهذا أكثر ما أحتاج إليـه في هذا الوقت ,, سأشتاق إليك يا أمي ..”

ورحلت، سافرت وتركت حضورا كالشعاع في جيد القصيدة، وأدركت أن مفردة الشوق لا تستوعب مثقال ذرة مما أشعر به في غيابك .. الغياب ,, هل  أنت حقا غائب ؟ وهذه الومضات التي تعانق رحاب القلب وتغزو الوجود وتخفض لي جناح الذل من الرحمة حتى تمنحني السكينة  ..  وأعرف أنك تحاول أن تجد نفسك في هذا الفضاء  الذي لا يحمل أي بشائر ,, أن تنمو نخلة متسامقة في أفق الكرامة..  تذكرت كلامه حين تسلم تأشيرة السفر  وقد لاحظ تجهمي و كآبتي  – : ” أمي لست مسافرا من أجل المتعة أو اللعب , تذكري دائما أنني ذاهب من أجل العلم , ألا تعتبرين هذا فرضا وجهـادا ؟؟ ” . أجل يا بنى فطلب العلم بإخلاص نوع من الجهاد . شعرت بالارتباك و الخجل يلفان روحي وجسدي .. الجهاد .. هل أرتفع إلى مصاف أمهات الشهداء ؟؟ .. حلم لا يبدأ بالتثاقل والقعود أو باللهاث وراء كل سراب، ولا يتحقق بالتمنيات , أعرف يا بنى أنه لم يبق أمامنا من طريق سوى العلم والجهاد , فهذا زمن الإعصار واللعب في هاوية الدمـار لكنى أعرف أيضا يا بنى أن رحم هـذه الأمة ما زالت تلد من يتصدى لكل إعصار , هل يهم بعد هـذا أن نفترق ؟.. انتبهت لنداء طفلي الصغير :”هيه أمي ألا تسمعينني ؟” احتضنته بشدة وقلت له :” أجل يا بني أسمعك وأسمع همسات الشوق لمواصلة الطريق ..”

<  ذة. أم سلمى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>