الربا أوالقرض بفائدة، والسلف بزيادة، هذه المعاملة المسمومة والملعونة من أخطر أسباب الفقر وأبشعها، وأشدها فتكا باقتصاد الأفراد، والشعوب والدول، وأسرعها انتشاراً وتغلغلا في حياة الناس وأسواقهم، لم يدع مجالا من المجالات إلا تسرب إليه، وعشش فيه وبدأ يقتحم عبادات الناس ومقدساتهم ليفسد عليهم دينهم وآخرتهم، بعدما أفسد عليهم دنياهم.
وهكذا فبعد الشقق والمنازل والسيارات والتجارة، وأثاث البيت، جاء دور العيد بالسلف، والعقيقة بالسلف والزواج بالسلف والكتب المدرسية بالسلف.. وحتى الحج والعمرة بدأ الناس يفكرون ويتساءلون عن أدائهما بالسلف، لقد فتحت المصارف الربوية أبوابها للجميع وحشرت أنفها في كل شىء، وأصبح كل شيء يقضى بالسلف وكل سلف يحمل معه ربا فاحشا، وإثما مبينا، وفقرا عاجلا أو آجلا للمقترض العاجز عن أصل القرض، وثراء سريعا للمرابي، وفقرا منتظرا موعودا به على لسان من لا ينطق عن الهوى وفي كلام من لا يخلف الميعاد.
في قوله : >الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل<-رواه الدارقطني-، وفي قوله تعالى : {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}-البقرة-، وفي قوله : {وما آ تيتم من ربا لتربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله}-الروم-. سلوا عنه إن لم تصدقوا شعوب العالم الثالث، ودوله التي التهم الربا ثرواتها، واستنزف خيراتها، وأثقل كاهل ميزانيتها بالديون، وترك أكثرها يعيش تحت عتبة الفقر، تحتضر وتموت جوعا وعطشا وعريا أمام سمع وبصر المرابين الذين نهبوا أموالهم، وأصبحوا الآن يرفضون حتى إقراضهم بعض ما نهبوه، بعد إغراقهم في الديون، وأصبحت تلك الدول تتشنع إليهم في اعفائهم من بعضها، وإقراضهم ما تسدد به فوائد الديون، وبفوائد إضافية.
وانظروامن جهة أخرى الى صناديق الربا ومصارفه كيف تنتفخ وتمتلئ بسرعة سريعة، وبأرقام قياسية في الزمان والمبالغ، وأصحابها مطمئنون آمنون على أموالهم، حصنوها برهانات وتأمينات، يؤدي فواتيرها المدينون أنفسهم، حتى لا يصاب المرابي بأي خسران في ثروته وماله. وبالرّغم من هذه الاحتياطات والتأمينات فإنها تصاب بالإفلاس، تسمع ذلك بين الحين والحين، في هذا البلد أو ذاك تصديقا لقوله تعالى : {يمحق الله الربا} وقوله : >الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل<.
هذه إذا عاقبة الربا بصفة عامة والقرض بفائدة بصفة خاصة، فقر عاجل أو آجل للرابي والمرابي، فلا عجب إذا وقف الإسلام من هذا السرطان موقفا حازما يتسم بالصرامة والشدة، بهدف القضاء عليه، ومحوه من الوجود وإراحة الناس من مخاطره وأضراره، ووقايتهم من شروره، وذلك من خلال :
أولا : تحريم الربا بكل أشكاله وألوانه، ما ظهر منه وما بطن، وما أخفي وما أعلن،وما قل وما كثر تحريما قاطعا لا لبس فيه ولا غموض، ولم يرخص فيه لأحد لا في حالة الاختيار ولا في حالة الاضطرار، وأكد هذا التحريم بشتى التأكيدات والزواجر المؤثرة والممثلة في :
1- رسم أبشع الصور وأفحشها للربا والمرابين.
2- لعن المتعاملين بالربا والمتعاونين معهم والمساعدين لهم.
3- التهديد بإعلان الحرب على المرابين إذا لم يتوبوا ويكفوا ويتركوا ما لهم من الربا على غيرهم.
وفي هذا الاتجاه تصب الآيات والأحاديث التالية :
- قوله تعالى : {الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا}-البقرة-.
- وقوله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله}-البقرة-.
- قوله : >لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه<.
- قوله : >الربا تسعة و تسعون بابا أدناها كإتيان الرجل أمه -يعني الزنا بأمه<.
- وقوله : >درهم ربا ياكله الرجل وهو يعلم أشد من ثلاثين زينة<.
إن استعمال القرآن والرسول هذا الأسلوب في تحريم الربا والنهي عنه، واختيارهما أبلغ الألفاظ ورسم أقبح الصور، إن دل على شيء إنما يدل على تغلغل الربا في المجتمع الجاهلي واستمساكه به وبناء اقتصاده عليه وتخوفه من انهياره إذا قطع التعامل به، لذلك نراه يدافع عنه بكل قوة {إنما البيع مثل الربا} كما يدل على ذلك أيضا على تصميم الإسلام وعزمه على محاربته واستئصاله من مجتمعه وتحرير أهله من نفوذه وسيطرته. لذلك يخاطب المومنين بعنوان الذين آمنوا يذكرهم بدينهم والتزاماتهم ويتحداهم في ايمانهم : {إن كنتم مومنين}.
ثانيا : لم يقف الإسلام من الربا عند حد النهي والتحذير الوعيد، بل جاوز ذلك بكثير، حين اعتبر كل المعاملات الربوية معاملة باطلة بقوة الشرع، لا يترتب عليها أي أثر شرعي، لا تفيد الملك ولا شبهة الملك، وقرر بناء على ذلك اعتبار الفوائد الربوية حقا من حقوق المدينين الذين اكتسبوها بعرقهم وجهودهم وملكا خالصا من أملاكهم يجب ردها إليهم إذا دفعوها واعفاؤهم منها إذا كانوا لم يؤدوها، وحرمان المرابين من الاستفادة من جريمتهم، وذلك بنص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
- في قوله تعالى : {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}-البقرة-.
- وقوله في خطبة حجة الوداع : >ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لاتظلِمون ولا تظلَمُون<.
وهكذا أبطل الإسلام الربا بأثر رجعي وبنص قطعي لا يقبل النسخ، ولا يحتمل التاويل وإلى الأبد.
ثالثا : منع المرابين من الاتجار في أسواق المسلمين، والجلوس فيها، وإغلاق دكاكينهم لئلا يوقعوا الناس في الحرام، روى الترمذي أنه قال : >لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في الدين<، وكان عمر ] يضرب بالدرة من يقعد في السوق وهو لا يعرف أحكام الربا، ويقول : لا يقعد في سوقنا من لا يعرف الربا.
رابعا : إقامة جهاز تنفيذي لمراقبة الأسواق، والتأكد من خلوها من المرابين، وسلامتها من المعاملات الربوية، وامتحان التجار في أحكام الربا قبل السماح لهم بالاتجار في أسواق المسلمين، تنفيذا للحديث السابق : >لايبع في سوقنا إلا من تفقه في الدين< وعلى هذا النهج سار الأمراء في عهد مالك رحمه الله، فكانوا يجمعون له التجار فيسألون في المعاملات، فمن لا يعرف الحلال من الحرام في المعاملات يمنع من البيع في السوق ويقام منه.
إن موقف الإسلام من الربا بهذه الصرامة يـرمي إلـى تحقيق عدة أهداف منها:
1- حماية المحتاجين والمستضعفين من استغلال المرابين لهم، والإثراء على حسابهم وتعريضهم للفقرعاجلا أو آجلا كما هو واقع الآن.
2- الحد من الغلاء وارتفاع الأسعار الذي يتسبب فيه الربا، ويصحبه عادة.وتخفيف من أعباء المستهلكين المرهقين بفوائد الأبناك وأرباح التجار.
فلكي يحصل التاجر على ربح معقول يلزمه إضافة الفوائد الربوية الى ثمن البضاعة التي تكون بدورها مثقلة بفوائد ربوية مترتبة على أدوات الانتاج، ورأس المال، ووسائل النقل، مما يرفع ثمنها الى أضعاف مضاعفة للثمن الأصلي الحقيقي الخالي من الربا وهو أمر لا تتحمله الطاقة الشرائية عادة. وتكون النتيجة الركود، وهو أخو البطالة وسبب يؤول بأهله إلى الفقر.
3-محاصرة المرابين ومحتكري النقود، وإرغامهم على اختيار إحدى ثلاث :
< إما تجميد أموالهم، وخزنها في صناديقهم حتى يفنيها الانفاق والزكاة، وهو أمر لن يقبلوه ولن يطيقوه، ولن يصبروا عليه إذا أجبروا عليه لأنهم أحرص الناس على الربح، وأحوجهم إليه حتى لا ياكلوا رؤوس أموالهم.
< وإما المغامرة بالمال، والنزول به الى الأسواق بأنفسهم، واستثماره بأيديهمإذا لم يثقوا في غيرهم، وبذلك يشاركون في الدورة الاقتصادية بأنفسهم وأموالهم، وهو مكسب كبير للأمة وربح عظيم لها. أن يركب الجميع قطار التنمية، ولا تبقى طبقة خارج القطار لا تنتج شيئا معتمدة على رؤوس أموالها وما قدره عليها من فوائد وأرباح دون تعب أو عناء.
< وأما مشاركة غيرهم من المحرومين من رأس المال، وإعطاؤهم رأس المال يستثمرونه بجزء من الربح وإعفاؤهم من الخسارة على طريق المضاربة الشرعية التي تراعي حقوق العامل ورب المال، وتضمن مصالحهما، ولاتظلم واحدا منهما، فالربح بينهما على ما اتفقا، والخسارة على رب المال والعامل يكفيه خسارة وقته وعمله، فلا يكلف خسارة المال.
أما إلزام المقترضين بتقديم أرباح محددة، وفوائد مضمونة مسبقا في كل حال، وتحميل المقترضين وحدهم أتعاب العمل ومصائب الخسارة التي تعرضهم للفقر والإفلاس فهو منتهى الظلم والاستغلال، وهو الذي لا يقبله الإسلام ،وهو السر والحكمة من وراء محاربته الربا والتنديد به ولعن أهله وإعلان الحرب عليهم في كل زمان ومكان من أول يوم نزل فيه قوله تعالى : {وأحل الله البيع وحرم الربا} إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
-يتبع-
د. محمد التاويل