العهد في رمضان أنه شهر الانتصارات والفتوحات، شهر المعارك الحاسمة المغيرة لوجهة التاريخ، ألم تكن بدر فرقاناً بين طغيان الكفر وعُلُوّ الإيمان، ألم تكن عين جالون وحطين والزلاقة فرقانا بين طغيان المجوس وعُبّاد الصليب، وبين عُبّاد الله ناصر المستضعفين الصالحين.
هكذا العهد في رمضان، ولكن رمضان هذا العام أقبل وبيْن يديْه وخَلْفه وقُدّامه أبواقٌ تنعَقُ بالخراب والتدمير لحضارة الإسلام، وتُنادي بِعُلُوّ حضارة >هُبَل< العَصْر، حضارة >العِجلِ الذهبي< الذي مازال له خُوارُ يَصُكُّ أسماعَ المتهافتين، كالذُّباب على موائد الزّبالاتِ الدنيوية، حضارة من لا يحْمِلُ رسالةً إلا رسالة التدمير والتخريب والإفساد {ومن النّاس من يُعْجِبُك قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ويُشْهِد الله على ما فِي قَلْبِه وهو ألَدُّ الخِصَامِ وإذَا تَوَلَّى سعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْل واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ}-سورة البقرة- فماذا وقع في رمضان هذا العام؟؟ وقع ما لم يقع مثيله في رمضانات سابقة، وقع الهَوْلُ الذي لا هَوْلَ فوقه؟؟ وقع الخرق الذي لا خَرْقَ فوقه للمبادئ الإسلامية العليا؟؟ وقع سوْقُ العالم الإسلامي إلَى هَدْم نفسِه؟.
غفرانك يا ربنا، فقد قلت وقولك الحق {يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِدُوا اليَهُود والنّصارى أوْلِياء بعْضُهُم أولِيَاءُ بَعْض ومنْ يتَوَلَّهُم مِنْكُم فإنَّهُ مِنْهُم}-سورة المائدة-. وقلت : {لا تَجِدُ قَوْماً يُومِنُون باللّهِ واليَومِ الآخِرِ يُوادُّون منْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَه ولو كانُوا آبَاءَهُم أو أبْنَاءهُم أو إخْوَانَهُم أو عَشِيرتَهُم}-سورة المجادلة- وقوْمنا من الذين يقولون لا إله إلا الله محمد رسول، ويدّعون أنهم يُصلُّون ويصومون، ويزعُمون أنهم يفهَمون الإسلام أكْثَر مِمّا يفْهَمُه العلماء المخلصون المجاهدون، وأكثر مما يفهمُه الشبابُ القانِتُون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله.. هؤلاء القومُ منّا أعطوا القِياد لأعدائهم، فأصبحوا مجنّدِين معهُم لضرب المسلمين في أوطانهم وخارج أوطانهم، وأصبحوا يُشوّهون المسلمين أكثر مما يشوّهُهُم أعداؤهم، فرحْمَتَك يا ربّنا، فالخطبُ أدلَّهم، ولم يَبْق إلا العلاجُ الأكْمل الأتَمُّ، منك يا ربّنا الأعلم والأرْحم والأحْكم. علاجاً يفتحُ بالحق بين الأتقى والأظلم.
وأنت يا ربنا قلت {واعْتَصِموا بحَبْل اللهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا}-سورة آل عمران- وقومُنا اعتَصَمُوا بالشرعية الدولية التي تُبيحُ تسلُّط القويّ على الضعيف بوحْشية وهمجية لا نظِير لَهَا. وأنْت قلت : {ولاَ تَنَازَعُوا فتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُم}-سورة الأنفال-والنظامُ الدّولي فرَضَ على قومِنا التشَتُّت والانقسام فَرضُوا به وأطاعُوه. وأنت قلت : {إنّما المومنون إخْوةٌ}-سورة الحجرات- وأربابُ النظام الدولي جَعلوهم أعداء يقتُل بعضهم بعضا. فرحْمتك يا ربنا، ومغفرتك يا ربنا، وهدايتك يا ربنا لقومنا الذين يديرون شؤوننا بغير مشُورَةٍ للمسلمين ولا رضًى منهم، فالْطُفْ بنا يا لطيف يا خبير يا سميع يا بصير.
وأنت يا ربنا أخبرتنا بالحق أن فرعون القديم قال لقومه {ما أُرِيكم إلاّ ما أرَى وما أهْدِيكُم إلاّ سَبِيل الرّشادِ}-سورة غافر- وفرعونُ العصر قال لهم : >إمّا معنا أو مع الإرهاب< فانحاز قومنا وأنت الأعلمُ إلى فراعِنة العصر خوفاً من بطشهم وجبروتهم، وتركوا جانبك وأنت الأقوى والأعزُّ الذي لا يُرام ولا يُضامٍ. ألم تقل يا ربنا {ذلِكُم وأنّ اللّه مَوَهِّن كَيْدَ الكافِرين إن تَسْتَفْتِحُوا فقد جَاءَكُم الفَتْحُ وإنْ تَنْتَهُوا فَهُو خَيْرٌ لكُم وإن تعُودُوا نَعُدْ ولن تُغْنِي عنكم فِئَتُكُم شَيْئاً ولو كَثُرَتْ وأنّ اللّه مع المومنين-سورة الأنفال-.
لقد رأينا من الأهوال في هذا الشهر الكريم، شهر رمضان العظيم ما يشيب لهَوْلِه الولدان من التخاذل والتهاوي والسقوط، فانْصُرنا يا ربّنا على يَأْسِنا وقُنُوطنا، ووهِّن كيد أعدائنا، فليس لنا أي أمل إلا في وعْدِك الحَقّ الصادق الذي تقول فيه : {ونُرِيد أن نَمُنّ على الذِين اسْتُضْعِفوا في الأرض ونَجعلهم أئمة ونجْعَلَهفم الوارثين ونُمكّن لهم في الأرض ونُري فرعَوْن وهامَان وجُنُودهما مِنْهم ما كَانُوا يَحْذَرُون}-سورة القصص-. أنت ربنا وأنت رب المستضعفين، وأنت وليّنا، وأنت مُذِل الفراعنة المستكبرين.