الإيمان بالقدر يحرِّر الإنسان
من عقدة الخوف
لو قلنا إن الاعتذار بالقضاء والقدر ممكن أمام القضاء لذهبت الدنيا فوضى، فنحن لا نبالي بقضية القضاء والقــدر فـي هذا الباب، بل نعتبرُها لأنها مسجلة، ونعتبر أن العبد لم يكن ملزما بها ولم يكن مُلجأ إليها، ولم يكن مكلّفا بها لأنه عندما أقبل على العمل لم يكن يعلم ما خبّأه الله له، كان بإمكانه أن يفعل الخير لكنه اختار الشّر فيجب أن يعاقب على الشّر الذي اختاره، وهذه هـــي عقوبته وهذا هــو الأمـــر الذي استحقه.
إذن في هذا الاتجاه يمضي التّصديق بالقدر أي هو تصديق ولكنّه إيجابي يدفع الإنسان إلى الخير يُحرّر الإنسان من عقدة الخوف والموت والفشل لأن كل ذلك بمقدور الله لكنه في نفس الوقت يعطيه انطلاقة ليتحرّك نحو الأفضل.
العقيدة الجبرية تعطِّل التكليف
هؤلاء الذين جاؤوا بالجبر وقالوا بأن الإنسان لا إرادة له مطلقا، بل هو عبارة عن ورقة ملقاة على الورق لا إرادة لها هذا الفهم للقدر لا يناسب كرامة الإنسان، لأن مسلوب الإرادة لا يمكن أن يكلف أو يحاسب أو يعاقب أو يجازى، بل يصبح كالحجر الجامد. وقد ردّ علماء المسلمين منذ القدم على أصحاب العقيدة الجبرية لأن الجبرية بهذا المعنى تعطيل للتكليف، وتعطيل للإرادة، هذه الجبرية بهذه المثابة تجعل الانسان غير مسؤول عن شيء في الكون أبداً مع أن الكون فيه إنسان يتحرّك، لذلك ردّ عليها علماء السنة وعلماء آخرون بكل الأدلة التي تفيد أن الإنسان مكلّف والتكليف يقتضي الحرّية ويقتضي التصرّف بالإرادة.
الإنسان مخير ومسير في إطار الإرادة الإلهية
هناك طائفة المُعتزلة التي ذهبت بعيداً في القول بحرية الإنسان وبأن الإنسان خالق أفعاله، وتمحّلوا في ذلك تمحّلات عقيمة، ووقف أبو الحسن الأشعري رحمه الله بين هاذين الفريقين وقال بأن العبد يكتسب الفعل أي الفعل كلّه صادر من الإنسان، وأن الإنسان هو أصل الفعل. فإذا تقدم العبد إلى الفعل وأراد مباشرته وهمّ به وانصرف إليه، يخلق الله له عند ذلك قدرة خاصة لمزاولة ذلك الفعل، إذن فهناك قدرة ناشئة بالكسب، هذه النظرية هي المعروفة عند الأشاعرة وبنظرية الكسب، وهم يريدون إعطاء الإنسان نوعاً من الحرّية ونوعاً من الإرادة ليتصرّف ليكون مسؤولا.
والمهم :أن العلماء على العموم لا يرون الجبرية التي تعطّل إرادة الإ نسان وتجعل الإنسان غير مسؤول عن شيء من أفعاله، الإنسان كما قال عنه بعض المسلمين هو حر وهو في نفس الوقت مسيّر، وقالوا إنه مخيّر في إطار مسيّر. بمعنى أن الإنسان ليس حرّاً لدرجة أنّه يتصور أنه يفعل كل شيء وأنه هو السيّد في هذا الكون فهناك إرادة إلاهية لا يجب أن تعطّل، ولكن مع ذلك يبقى للإنسان حظ من الحركة، وهذهالحرية هو بها مسؤول، إنه يمتلك حرية مثل حريّة القطار، فالقطار حر في أن يتحرك نحو المحطة المقبلة أو أن يتوقّف، فإن تحرّك فهو حر لكن في نطاق سكّتين معينتين يجب أن يتحرّك فيهما، إذن فهو حرّ لكن في إطار مسيّر. والإنسان فعلا حينما يوجد في بيئة معيّنة حينما يوجد في مستوى من ذكاء معين، حينما يوجد من أبوين خاصّين، حينما يوجد في بيئة متخلفة، حينما… وحينما.. هذه أشياء كثيرة تفرض على الإنسان طبيعته وسلوكه، هذه الأشياء الإنسان فيها ليس حرّاً، هل أنت خترت أباك؟ هل اخترت أمّك؟ هل اخترت أن تنشأ بهذه المدينة؟ في أن تتلقى هذه الثقافة؟ في أن تعاشر هذه البيئة؟ أشياء كثيرة. أن يكون لك هذا المستوى من العقل والذكاء، لمِ لَمْ يكن لك أكثر، أو أقل؟ هذه الأشياء تدل حقّا على أن لإنسان واقع تحت إرادة الله عز وجل وليس حرّا اطلاقاً من الارادة الإلاهية، فهناك في هذا المجال لاشك مُسيّر ولكن في آن يُباشر الخير”، في أن يتقدم، “في أن يتأخر” فهو حرّ تحت إرادة الله وعلمه وهداه النجدين {قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها} إلى غير ذلك من النّصوص التي تفيد بأن الإنسان يجب أن يتحمل مسؤوليته فإذا كان الله تعالى قال في هذه الآية : {خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} فهذه تحمل الإنسان مسؤولية أي أنكم صرتم كفّاراً بعدما منحتم العقل وأُعطيتم الإدراك وكلّ المؤهلات التي تجعلكم مؤمنين ولكنّكم لم تستعملوها لذلك، فهذه إدانة لهم ولذلك يحاسبهم الله، ولذلك يؤاخدهم ويلقيهم في النار، إلقاؤهم في النّار ومعاقبتهم دليل على أنهم كانوا أحراراً وأنه كان أمامهم طريق الصّواب وطريق الخير لكنّهم اختاروا الطريق المعوّجة وفضلوه على غيره، فهم بذلك محاسبون.
{خلقكم فمنكم كافر ومنكم مومن} الكافر والمؤمن موجودان والوضع الطبيعي أن لا يكون إلا المؤمن في الكون كما أن الكائنات كلّها مسبحةوخاضعة فطبيعة الأشياء تقتضي أن يكون الإنسان نفسه استمراراً لهذا الذي هو في الوجود لكن الإنسان هو فقط الذي فيه هذه الثنائية المزعجة مع عالم الجن طبعاً لحكمة إلهية خاصة، لكن الإنسان لو استعمل ذكاءه واستعمل فكره واستعمل فطرته واهتدى ورشد لكان الجميع متفقين على أن يكونوا على الإيمان لأن ذلك هو الصّواب.
د. مصطفى بنحمزة