لقد أخبر النبي أن الأمة ستصير إلى هوان وضعف، وهزيمة وعجز، نتيجة تعلق مجنون بالحياة الدنيا، وإقبال محموم على المتاع الرخيص، قال : >يوشك الأمم أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا : وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت<(رواه أبو داود).
هذا هو سِرّ الغثائية، حب الدنيا وكراهية الموت، الشيء الذي أورثنا ذُلاًّ يجري في دمائنا، ووصمة عار على وجوهنا، فأصبحنا نرضى بعيش الهون وحياة الدون، التي يغرق فيها المنهزم فلا يرفع رأسه، ولا يفتح عينه.
لقد أخبر القرآن أن قوم عاد طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد} هذه القوة التي لم يخلق مثلها في ذلك العصر وقف أمامها نبي الله هود بمفرده تغمره روح التحدي للجبروت والطغيان، والظلم والإجرام، فقال عليه السلام : {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم}.
إنه النموذج من أنبياء الله للكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، الشيء الذي يجعلنا نعتصم بالقوة التي لا تغلب، والحق الذي لا يقهر، والنصر الذي لا يهزم {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}.
إنها قوة الشعور باليقين المتدفق، وروعة الإحساس بالإيمان المشرق، فلا ركوع ولا انحناء للخلق ومعنا الخالق، ولا خوف ولا وجل والعدو باطله زاهق، {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناوقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء}.
إن القرآن الكريم أخبرنا أن أمم ا لأرض إذا مدت يد البطش لِتَلغف في دمائنا، وتنهب من خيراتنا، وتغصب أرضنا، فلا شيء من كيدهم يلحقنا إلا ما كتبه الله علينا {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المومنون}.
لقد عظم مبلغ المهانة والانهزام أمام عدونا حتى أصبحنا لا نرى إلا ما يرى، ولا نفكر فيما جرى، فسلبنا الشعور بوجودنا، وا لاعتزاز بمقوماتنا، والمعرفة بقدرة خالقنا {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
فاكتسبنا بذلك العضوية كاملة في حزب الشيطان الخاسر، وفقدنا شرف العضوية في حزب الله المنتصر {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
إن الخوف والدهشة أخذت بمجامع نفوسنا فهزتنا هزّاً عنيفا ثم رمت بنا على حضيض الهزيمة النفسية قبل الهزيمة العسكرية، ونحن نتظاهر في صورة الرِّعْديد الذي يحمل سيف الإسلام، ويتوعد بالانتقام، لقد آن الأوان ليظهر البطل المغوار، الذي تتحالف معه الأكوان، فقد أخبر سيد الأنام أن القيامة لا تقام، حتى تزول غطرسة الطغيان، ويعود الحق لأهل الإيمان، قال : >لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقول الشجر والحجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله<(رواه مسلم).
فحتى يتكون من أسلم أمره لله، وحرر عبوديته لسيده ومولاه، حينئذ يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
عبد الحميد صدوق