افتتاحية: حضارةُ التراب مآلُها الخراب


إن الهوْل الذي أحدثه الهجوم المجهول -لحد الآن- على المراكز الحساسة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيّاً بأمريكا يشبه بعض ما ذكره الله تعالى من أهوال يوم القيامة {وتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى ولَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ}(سورة الحج) هَوْلٌ يشعر بخطورته المومنون ولذلك يتفَادَوْنه بالإيمان والعمل الصالح حتى يحفظهم الله تعالى منه،ولا يشعر به الكافرون السكارى بحُبّ المال والدنيا حتى يفاجأوا به يوم القيامة  أو ببعض ما يشبهه في الدنيا كما وقع يوم الثلاثاء 2001/9/11 في الهجوم غير المسبوق على زعيمة الاستكبار العالمي الذي طغى في البلاد، وتجبَّر على العباد، وأكثر من الفساد، فصار لا يحسب لقوة الله تعالى أيّ حساب.

هجوم لا يدعو إلى الفرح أو الشماتة، إذْ لا شماتة بموت البرآء، ولكنه هجوم كارثِيٌّ يدعو للاتعاظ والاعتبار ومراجعة الحساب للسياسة الاستعمارية الاستكبارية العمياء، وإلا فإن الله بالمرصاد لكل جبار عنيد لا يُحسِن سياسة الاستخلاف عن الله تعالى في أرضه وبَره وبحره وسمائه وهوائه ونعمائه : {ولاَ تَحْسِبَنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُون}(سورة الأنفال)، {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذِينَ كَفَرُوا فِي البِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبِيسَ المِهَادُ}(سورة آل عمران).

وبوادر الاتعاظ والاعتبار تبدأ من :

1) مر اجعة وضعية مجلس الأمن الذي أُسِّسَ -ظاهريا- لترسية الأمن في العالم، أمّا عمليا فقد أصبح يُقَعِّدُ للظلم في العالم، فبأي حَقٍّ يحتكر الخمسة (الكبار) مقاليد التحكم في العالم على كل صعيد؟؟ ومنْ كَبَّر هؤلاء الكبار؟؟ إن القوة العسكرية المدمرة التي يملكونها لا تدعو للتكبير، بل ذلك يعتبر في الحقيقة مخزون هلاك العالم في وقت علمه عندربي الذي لا يغفل عن أفعال الظالمين. فكيف يستحق التكبير من كانت نواياه تجاه الإنسانية بمثل هذا السوء؟؟ ومن كان ينظر إلى المستضعفين تكنولوجيا وتسلحا وتصنيعا نظرة دونية تتمثّل في فرض سياسة العصا الغليظة على شعوب العالم الثالث وقادتهم وسياستهم ومناهجهم ونمط حياتهم؟؟ وهل يستحق التكبير من يحتكر القوة ويحرم الضعفاء -بدون حق- من حقِّهم في حرّية الاختيار لسَاسَتِهم واقتصادهم و تجمُّعهم وتديُّنهم وتشريعهم وعلومهم وابتكاراتهم وأسواقهم؟؟

هذه هي النقطة الأولى التي يتحتم على (الكبار) مراجعتها، وإشراك كل شعوب العالم في المراجعة وترسية الوضع الصحيح العادل لمجلس الأمن ليكون أهلا للقيام بمسؤوليته الكبيرة الملقاة على عاتقه والمتمثلة في جعل العالم يعيش عيشا كريما آمنا من كل حيف وجور.

2) مراجعة الأخطاء القاتلة وتقديم الاعتذار عنها، مثل : إجلاء الفلسطينيين من دُورِهِمْ بالقوة، وتوطين الغرباء بالقوة، مع ما صاحب ذلك من التقتيل والتدمير وانتهاك الحرمات والأعراض بدون حسيب ولا رقيب. ومثل الهجوم بالطائرات الاستكبارية في جنح الظلام على الشعب الليبي الأعزل، ومثل تجريد الحملات الجهنمية على الشعب الإيراني لمدة ثمان سنوات أكلت الشحم واللحم وكسرت العظم،  ومثل تدبير الحرب الخليجية الثانية لإهلاك شعوب اختارها الله تعالى لتكون موطن آخر رسالة السماء إلى الأرض، ومثل الهجوم على مستشفى بالسوادن بناء على ظنون ما أنزل الله بها من سلطان، ومثل تسليط العملاء الدكتاتوريين على الشعوب الإسلامية في كل مكان للتحكم في اختياراتها الأساسية بدون وجه حق. ومثل الوقوف في وجه محاربة العنصرية الحقيقية في المؤتمر الأخير بـ”دُورْبَان” ومثل إشهار سلاح “الفيتو” لنُصرة ظالم يغتصب الأرض والإنسان والمقدسات. إلى غير ذلك من الأخطاء القاتلة التي لا يكفرها إلا الاعتراف والاعتذار وإرجاع الحق إلى أَصحابه.

3) الابتعاد عن لهجة الغطرسة والتهديد فذلك يدل على تأصُّل الغرور في النفوس، وتحكُّم الهوى في التوجه السياسي، فما وقَعَ قد وَقَع، ولكن سؤال العِبرة لماذا وقع ما وقع؟؟ وبالحجم الذي وقع؟؟ وبالدقة التي وقعت؟؟ ألا يمكن أن يكون وقوعه مفتعلا لترسية سياسة أكثر تحكّماً وأكثر ظلما و تجبّراً كما افْتُعِلت الحروب العالمية السابقة لتغيير وجهة التاريخ على حساب ملايين الأشلاء وبحار الدموع والدماء؟؟ فماذا تعني اللغة المتناغمة بين الكبار والمتمثلة في “محاربة الإرهاب الدولي”؟؟ فمن أنشأ الإرهاب الدولي؟؟ هل شعب فلسطين، الذي هُجِّر ويقتَّل ويذبَّح على مرأى ومسمع من العالم كله، شعب إرهابي؟؟ لأنه يقاوم بجسده ودمه الظلم العالمي الخبيث؟؟ هل شعب الجزائر إرهابي لأنه يقاوم الدكتاتورية المسندة؟؟ وهل شعب تركيا إرهابي؟؟ وهل شعب ايران ارهابي؟؟ وهل شعب أفغانستان ارهابي؟؟ وهل شعب الشيشان إرهابي؟؟ كيف انقلبت الموازين حتى أصبح القاتل الظالم حامياً للعدل والقانون والقتيل المظلوم المستباح الكرامة حاميا للإرهاب؟؟ تلك إحدى مصائب العولمة الظّلميّة والهَيْمنيّة والديكتاتورية المقنعة نسأل الله تعالى أن يقي العالم من شرورها وآثامها وثمارها المرّة التي سيجنيها الجميع ظَلَمة ومظلومين قتلة ومقتولين، فإن مجرمي العالم يخططون للاستفراد بخيراته بدون أن يدْرُوا أن الملك لله وحده، وأن العزة لله وحده، وأن الهيمنة لله وحده، وأن المرجع والمصير لله وحده. هذه هي الحقيقة المطلقة، ومن كذّب بها قديما وحديثاً ومستقبلاً فإن الله تعالى توعّده بقوله عز وجل : {ذَرْنِي ومنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيث سنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يعْلَمُون وأُمْلِي لهم إنّ كَيْدِي مَتِين}(سورة القلم).

أما الحقيقة المطلقة الثانية فهي أن ما وقع سابقا وآنيا ومستقبلا من دمار وكوارث هو نتيجة لحضارة المادة التي انغمس فيها العالم الكافر، وحضارةُ التراب مهما تزخرفت وازّينت فمآلها الدّمار والخراب {وتِلْكَ القُرَى أهْلَكْنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمُهْلَكِهِم مَوْعِداً}(الكهف : 58).

فهل تستوعب القوى العظمى] الدرس وتبدأ في المراجعة الشاملة لترسية شؤون العالم على أسس عادلة جديدة لا فرق فيها بين شمال وجنوب، وقريب وبعيد، وصديق وعدو. ذلك ما يُرجى ويؤمل. أم ستزداد شراسة وعتوا وطغياناً ذلك ما نسأل الله عز وجل أن يقينا أخطاره وكوارثه وألا يهلكنا بما يُمْكن أن يفعله السفهاء من كبار عالمنا، فـ{قَدْ مَكَرَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِم فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم من القَوَاعِد فَخرَّ عَلَيْهِم السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِم وأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون}(النحل : 26).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>