تمهيد
تعيش بلادنا مثل سائر بلاد المسلمين فترة من الانهزام الحضاري بكل صوره، حيث ابتعدت عن مقاصد الدين وأهدافه وعطلت قدرتها على السير في الأرض، والنظر في سنن الله في الأنفس والآفاق، واكتشاف القوانين والأقدار التي تنظم الحياة والأحياء. للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وحمل الأمانة العظمى التي قال عنها عز وجل : {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}(الأحزاب : 72).
أمانة حمل الدعوة وحسن تبليغها و امتلاك الحجة والإخلاص في النية والصواب في العمل من الأمور العظيمة التي تحتاج إلى عدة من العلم والبيان. العلم بالله عز وجل، العلم بكتابه وسنة نبيه ، ثم مقارنة نصوص الوحي بالواقع ليرى كيف يتحقق وعد الله ووعيده.
فإذا كان فهم الدين وفقهه هو الأصل في التدين الصحيح فإن فهم الواقع، والعلم به هو القاعدة الضرورية التي ينبغي مراعاتها من أجل تنزيل النص الشرعي على واقع المكلفين، إذ لا يمكن فهم الدين مجردا عن واقعهم. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن تقدير المرء لواقعه و آستفادته من ماضيه وقيامه بالتخطيط ليوجه مسار الاصلاح من الاهداف المرجوة إنما هي الأسس المطلقة لضمان البقاء والازدهار.
مفهوم التدين
قبل الحديث عن واقع التدين ببلادنا، لابد من تحديد مفهوم التدين أولا.
التدين هو الغاية الأولى من الدين، والقصد الأصيل من الخلق، وهذا معنى استقرائي قطعي من النصوص الشرعية، والمقصود بالتدين، هو إٍقامة الدين على المستوى الفردي والجماعي. أي على مستوى علاقة الانسان بربه وعلاقته بأخيه الإنسان. وإقامة الدين على مستوى الجماعة لا يمكن أن تتم -لا في التصور ولا في الواقع- إلا بعد إٍقامته على مستوى الفرد. لأن المقصود في النهاية هو خضوع الانسان لارادة الله الواحد القهار وذلك هو معنى التعبد الجامع لكل ذلك {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات : 57).
وتحقيق التدين بهذا المفهوم في المجتمع هو الهدف من كل الحركات الاصلاحية في العالم الإسلامي، وقبل ذلك كان هو الأساس الذي انبنت عليه الفتوحات ا لاسلامية، لأن الفتح كان فتح عقيدة، فتح تعليم، فتح رسالة جاءت لتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، الفتح كان فتح نور وعلم ومعرفة، فكانت الرسالة الإسلامية مفتاح العلو والتقدم، سر القوة الحضارية لحاملها. ما أن يتخلى عنها حتى ينال الذل والهوان. إنها معادلة ربانية وسنة من سنن الله في الكون.
{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}(آل عمران : 137).
وقراءة واقع التدين في المغرب لا يمكن أن تتم بمعزل عن المعامل التاريخي لهذا الواقع.
المعامل التاريخي
إذا قرأنا تاريخ المغرب نجد أن الدين الإسلامي هو الأساس الوحيد الذي أعطى للمغاربة كياناً والأساس الوحيد الذي قامت عليه دولة في المغرب بالمفهوم الحديث.
المغرب كان عبارة عن مجموعة قبائل بتقاليد مختلفة ولهجات مختلفة عانت كثيرا من الحروب فيما بينها. ومن استبداد الرومان ثم البيزنطيين.
فالشعب المغربي اختار الاسلام وتكلم العربية مرحبا بالفاتحين المنقذين من حكم البيزنطيين المستبد. فكان الشعب المغربي مسلم العقيدة، اختار الإسلام عن طواعية، حتى أن بعض المفكرين المعاصرين نعتوا الفتح الاسلامي بالثورة الإسلامية في شمال افريقيا.
فلم يكن الفتح عسكريا فحسب وإنما كان فتحا علميا تحرريا جلب الرخاء والتقدم، كان فتحا إنسانيا وبداية لحدث حضاري للمغرب وأوروبا بعد ذلك.
هذا الشعور الديني هو الذي بعث في المغاربة روح الجهاد ليشاركوا في إكمال الفتوحات الاسلامية ويبدأ فتح الاندلس بـ7000 جندي بربري حديثي العهد بالإسلام بقيادة والي طنجة آنذاك طارق بن زياد.
تعاقبت على حكم المغرب حكومات مختلفة تمثلت في الولاة الأمويين والعباسيين وكان للعصبية القبلية دور كبير في تعيينهم وعزلهم، وغلبت عليهم النزعة الفردية والرغبة في تحقيق المصالح الخاصة وتغليبها على المصلحة الجماعية. فكانت أيضا المعادلة الربانية.
ثارت القبائل ضد الولاة سنة 122هـ ثم انفصل المغرب عن الخلافة الاسلامية.
لكن الشعور الديني ظل مصاحبا للمغاربة وكان هو الأساس الذي انبنى عليه اختيار المغاربة لادريس الأول نسبه الشريف ثم دعوته إلى إحياء السنة وتطبيق الشريعة، وهو نفس الأساس الذي قامت عليه الدولة المرابطية حيث أن عبد الله بن ياسين جمع أتباعه في رباط ليفقههم في الدين ويعلمهم حمل السلاح. فعرف المغرب في عهدهم نهضة حضارية فريدة، واستمروا أيضا في الفتوحات الاسلامية إلى حدود السودان وغانا، وبفضلهم أيضا استمر الاسلام في الأندلس لأربعة قرون أخرى، بعد معركة الزلاقة.
تسامى صرح الدولة المرابطية عاليا لكن هذا الصرح كان يحمل في طياته عوامل هدمه وفنائه، فما أن توفي يوسف بن تاشفين حتى بدأت مظاهر الفساد تظهر في السلطة من جهة ولدى الفقهاء المرابطين الذين كان لهم وزن كبير داخل المخزن المرابطي، كان لهم تأثير كبير على سياسة الأمراء الدينية والسياسية والثقافية والمالية كما مارسوا حق الرقابة على محاضر الأحكام الصادرة عن القضاة المحليين، وكانوا يصدرون أحكاما فقهية غير مستندة على أصول الشريعة ولم يعد الفقهاء المرابطون يهتمون إلا بتدعيم مراكزهم الدنيوية والحفاظ على امتيازاتهم وتخلوا عن التعمق في أصول الدين وابتعدوا عن الاجتهاد، منساقين وراء التقليد، فسقطت بذلك هيبتهم وتخلى الناس عن اتباعهم وفقدت بذلك الدولة المرابطية مشروعيتها الدينية.
وكل الحكومات التي تعاقبت على حكم المغرب كان الدين فيها هو أساس النهوض والسقوط بشكل واضح.
فبمقدار التمسك به يكون العلم والتقدم وبمجرد التخلي عنه يكون الذل والهوان.
قراءة سريعة في هذه المعطيات
< القبائل الأمازيغية ثارت في أكثر من مرة على السلطة لكن الدين ظل حاضرا في وجدانهم أو على الأقل في اللاشعور الشعبي فلم يعرف المغرب قط ارتداد قبيلة عن إسلامها.
مما يدل على أن الفتح كان تعليمياً بالدرجة الأولى.
أكثر المسلمين حاليا يعتقدون بأن امتلاك القوة والسلطة سيمكننا من استئصال الكفر لأن الكافر -وإن انتصرت عليه- له الحق في أن يبقى كافراً، والأمة ما لم تكن راشدة فلن تستفيد وإن نصبنا خليفة راشداً. لذلك كانت دائما الخطوة الأولى هي تربية الأمة وتعليمها حتى لا يبقى أحد فيها يجهل القرآن والإسلام.
< القبائل المغربية بمجرد إسلامها شاركت في فتح البلاد الأخرى (الأندلس، موريطانيا، السودان، غانا) مما يدل على أن الإسلام رسالة لابد لحاملها أن يكون فاتحا.
بالإضافة إلى أن سرعة الجندية عند القبائل المغربية تدل على أن الخيار الذي يبني مبكراً يعطي النتائج المتوخاة.
< إذا حاولنا الوقوف على أسباب النهوض والنكوض في كل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب نلاحظ أنه عندما يكون الانطلاق من الإسلام لنشره يكون التمكين في الأرض على كل المستويات. وعندما يكون الانطلاق من العصبية القبلية يكون السقوط.
في العدد القادم : رصد تحليلي لواقع التدين بالمغرب
ج. وفــــــــــــاء